المصدر: المدن
الكاتب: حسين سعد
الأربعاء 19 شباط 2025 13:17:44
واصل حمود (62 عاماً) النوم في هذه السيارة المكشوفة أكثر من 15 يوماً، منذ انسحاب الجيش الإسرائيلي، رافضاً مغادرة مصلحته التي تحولت إلى خراب. حلّ الطقس البارد فاضطر العودة إلى منزله المستأجر بخمسماية دولار في منطقة البرج الشمالي، قرب صور. ويقول لـ"المدن" بحرقة ولوعة كبيرتين: "جنى العمر ذهب سدى، ولم يبق لي سوى المرض والأوجاع التي تصاحبني ليل نهار. نناشد رئيس الجمهورية والزعماء والملوك العرب، إعادة إعمار بلداتنا والقرى المجاورة". فقد صب الإحتلال جام حقده على تلك البلدات وأصبحت غير قابلة للسكن، بدءاً من بلدة الضهيرة ويارين والزلوطية، وصولاً إلى مروحين والبستان وغيرها.
لا بيت يأوي السكان
في الطريق من الزلوطية إلى يارين، نصادف ناصر الإسماعيل، وهو مربي متقاعد. يتلفت يمنة ويسرى، على كروم الزيتون، التي تم تجريف الكثير منها وإحراق كروم أخرى. ويقول: "جئت اليوم في هذا الطقس الدافي والمشمس زائراُ الأرض لشم ترابها بعد غربة قسرية، وبعد وقت قليل سأغادر إلى صور. فلا يوجد بيت أمكث فيه. لم يبق أي شيء يقينا من الشمس والبرد. بيوتنا أصبحت ركام، وبدأت تنبت أعشاب الربيع فيها". ثم استدرك: "هذه أرضنا، وهذا زيتوننا الموغل في التراب عشرات العقود، لن نترك الأرض، وكلنا أمل أن لا يطول الإعمار والعودة إلى بيوتنا، التي بنيناها بعرق الجبين والدم".
في بلدة مروحين لا يزال أجزاء منها تحت الإحتلال الإسرائيلي، وخصوصاُ جبل بلاط، إحدى النقاط الخمسة، التي ابقى الإحتلال على تواجده فيها. في هذه البلدة غابت أي مظاهر بارزة للأهالي. النازحون منها في غالبيتهم حالياً ما زالوا في صور ومحيطها. وهم يخشون تفقد منازلهم القريبة من موقع جبل بلاط، حيث جنود الاحتلال يجرون فيه أعمال تحصين وتدشيم على قدم وساق. يعملون على منع أي تواصل جغرافي بين بلدتي مروحين وراميا، وسبقها رفع سواتر في آخر بلدة البستان.
شبه احتلال لبلدة الضهيرة
منع الإحتلال للاهالي في مروحين، من تفقد منازلهم بعد حوالي الشهر من تحرير بلدتهم وإنتشار الجيش اللبناني، يسري أيضاً على أبناء الضهيرة الفوقا، المتاخمة لموقع الإحتلال في مستوطنة جردايه. من هذا الموقع كان الجنود يطلقون النيران على عدد من الشبان والنسوة الذين حاولوا التقدم نحو هذا الحي، تزمناً مع إنتشار للجيش في وسط البلدة، بالتزامن مع تسيير دوريات للقوة الإيطالية العاملة ضمن اليونيفيل.
عند الطريق الرئيسي في الضهيرة إفترش بعض الاهالي الرصيف، وهم يعدون النراجيل، ويحتسون القهوة العربية، ومن بين هؤلاء عائلة جمال أبو سمرا، الذي رفع العلم اللبناني على أطلال منزله المدمر. ويقول أبو سمرا: "منذ إعلان تحرير البلدة في اواخر كانون الماضي، أقصد بلدتي لجمع ما أمكن من ذكريات في المنزل، الذي كان مؤلفاً من طبقات عدّة. وحتى الآن لم أتمكن من تفقد منازل أولادي في الضهيرة الفوقا. فالجنود الإسرائيليون يطلقون النار على كل من يحاول التوجه إلى المنطقة، إلى جانب قيامهم بأعمال توغل يومية وجرف ما تبقى من أشجار زيتون وجبانة البلدة الملاصقة للحدود مع الأراضي الفلسطينية المحتلة".
قرى خاوية من السكان
في الجهة المقابلة للضهيرة، يرابط علي عقيل يومياً، عند مثلث الجبين- طيرحرفا. أضحى المثلث معلماً للمنطقة، حيث استشهد فريق صحافي من قناة الميادين، مع بداية حرب الإسناد في تشرين الأول من العام 2024. هنا دأب عقيل على هذا المنوال، منذ الأيام الأولى لتحرير بلدته والقرى المجاورة في السادس والعشرين من كانون الثاني الماضي. يذهب في الصباح، ومع غروب الشمس، يشد عقيل، مثل سائر الأهالي، رحاله عائداً إلى منزل النزوح في صور. بلدته لم يبق فيها حجراً على حجر. لا تقع فيها على منزل واحد صالح للسكن. وباتت البلدة بلا أي مقومات للعيش، ولا سيما الكهرباء والمياه. رغم ذلك يصرّ عقيل على القول: "رغم كل ما حصل من دمار، ما زلنا مصممين على العودة، وإعادة إعمار ما دمره العدو. لدينا الثقة الكاملة، بما سبق وأعلنه الشهيد السيد حسن نصرالله، بأن تعود قرانا أجمل مما كانت".
يقطع مكبر الصوت لتجّار "الخردة"، الذين يجوبون المنطقة، حديث علي. ثم يتابع: "أول ما نقوم به عند المجيء إلى هنا بصحبة نراجيلنا قراءة الفاتحة عن أرواح الشهداء. ونعاهدهم على المضي في نهجهم".
بيوت جاهزة
خواء القرى من السكان يمتد إلى بلدة شيحين الواقعة بين بلدتي مروحين والجبين. هنا دمر جنود الاحتلال كل مقومات الحياة، من منازل وخزانات مياه وشبكات كهرباء ومياه ومساجد وطرق. وخلال تجوالنا في البلدة، التي يشرف عليها جبل بلاط، لم نصادف سوى شخص واحد، كان يجمع الحديد والخردة من منزله المدمر. يقوم بفرزها لبيعها في وقت لاحق، محاولاً الاستفادة مما تبقى من منزله. لكن في التجول في هذه القرية تقع العين على استعدادت لإنشاء بيوت جاهزة. فقد تبين أن بعض أصحاب المنازل المدمرة بدأوا بإحضار المواد الأولية لإنشاء بيوت جاهزة صغيرة في باحات منازلهم، تمهيداً لإستخدامها كمنازل مؤقتة. وهذا دليل على مدى تشبثهم بأرضهم، مفضّلين السكن وسط الدمار والخراب، على النزوح والتشرد.