"قطاع" الدعارة ضُرب أيضًا: الخسائر تقدر بـ 200 مليون دولار سنوياً

كتب رالف عساكر في الأخبار:

«تآمر» الدولار والكورونا على ضرب «قطاع» الدعارة. الأزمة غيّرت الكثير من «تقديماته»، من التسعيرة إلى جنسيات العاملات، ومن الفنادق إلى «دليفري» الأماكن العامة والشقق

أخيراً، عرف السكون طريقه إلى ليل المعاملتين. مشهد ليلي مغاير لم يعتد عليه أشهر شوارع جونيه في السنوات الماضية. حلّة جديدة ألبستها الأزمة الاقتصاديّة للمنطقة المزدحمة بالفنادق والحانات وعلب الليل والمشهورة بالسياحة الجنسية. فرغ الشارع من زحمته حتى تماثل بهدوئه مع غالبيّة شوارع المدينة الصغيرة.

التبدّل على ليل المعاملتين طرأ بدءاً من أواخر 2019، مع بدء الليرة مسيرة انهيارها أمام الدولار. وجاء فيروس كورونا الذي فرض إغلاق المطاعم والملاهي لأشهر، ليقضي على ما تبقّى من حركة. الشريط البحري المضيء بات داكناً وخالياً من معظم مطاعمه وفنادقه وعلبه اللّيليّة، وأصبحت النوادي اللّيليّة «النشطة» تُعّد على أصابع اليد الواحدة.

الخسارة الأبرز كانت لـ«نجمات» الليل، وغالبيتهن من أوروبا الشرقية. راقصات ومغنيات وبائعات جنس اضطررن للمغادرة بعد تدنّي القدرة الشرائية وتراجع الزبائن. هجرة قسرية ضاعفت الخسائر التي طاولت «القطاع» الذي بات يعتمد أساساً على «الإنتاج المحلي»! وهؤلاء يتبعن أسلوباً مختلفاً لا يعتمد على مركزية النوادي والملاهي والفنادق، بل يتسع جغرافياً إلى انتظار الرزق على جوانب الطرقات، أو بتوفير خدمة «الدليفري» إلى الشقق الخاصة أو الأحراج والشواطئ والسيارات ذات الزجاج الداكن.

مصائب أهل «القطاع» كانت فوائد على أهل المنطقة التي تتناقض الحياة فيها بين أصحاب المصالح الذين يعانون من فقدان زبائنهم نتيجة تضاؤل الدعارة في شارعهم، وبين الأهالي الذين يعانون من إرث حملوه عبر سنوات يملي عليهم أسلوب حياة يحكمه الحذر. يشعر هؤلاء بـ«ارتياح» بعد تراجع أعداد الزوّار ممن يقصدون علب الليل والفنادق التي تسمح بأعمال الدعارة، ويتسبّبون بمشاكل وصلت في كثير من الأحيان إلى ارتكاب جرائم قتل. سمعة المعاملتين كـ«مركز للدعارة والسياحة الجنسية» دفعت بكثيرين سابقاً إلى مغادرتها والسكن في أنحاء بعيدة «غير مشبوهة». لذلك، تعاني المنطقة حالياً من فراغ مزدوج: من زوارها الباحثين عن «اللذة»، ومن أهلها الهاربين من «صخب اللذة». و«في حال لن تزدهر الأحوال كما كانت قبل الدولار وكورونا، فليعد أهالي المنطقة الأوادم ليملأوا المباني المهجورة»، قال أحد سكان الحي.

من صمد في منزله لا يزال يتحاشى التحرك في الحي سيراً على الأقدام، ولا سيما بعد غروب الشمس. يرى حنا أنه رغم انحسار أعمال الدعارة بشكل ملحوظ، «إلا أنّ عدم الانتقال أصبح عادة في أسلوب حياة المقيمين في المنطقة، ولا سيما النساء، حتى ولو كانت الوجهة هي الدكان الذي يبعد بضعة أمتار عن المنزل». سلوك اعتادت عليه ماريا التي تعمل نادلة في أحد المطاعم في حارة صخر، وتضطر أحياناً للعودة إلى منزلها في وقت متأخر. تشكو، هي وكثيرات من ساكنات المنطقة، من تعرّضهن للتحرش والمضايقات بشكل شبه يومي. إذ «من المستحيل أن تسير سيدة بمفردها لأن العابرين بسياراتهم سيعتقدون أنها تبحث عن زبون لتلبية رغباته الجنسية». فيما لا تملك شرطة البلدية صلاحيات واسعة للاستجابة للشكاوى. فـ«إمكانات العناصر لا تخوّلهم ضبط الشارع بشكل دائم رغم تلقّيهم المستمر لشكاوى المستائين من انتشار الفتيات في الشوارع»، يقول أحد المسؤولين في الشرطة. ولكن «عندما نوقف فتاة تمارس الدعارة ونسلّمها للقوى الأمنية، تُحتجز لنحو ساعتين قبل أن تدفع غرامة مالية ويُطلق سراحها وتستأنف عملها من جديد».

«ضيعان المعاملتين»

تقر فئة أخرى بأنها جنت أرباحاً طائلة «من دون مخالفة القانون». أصحاب العلب الليلية يصنفون الفتيات كـ«فنّانات عملهن مشروع ومعروف من قبل القوى الأمنية، ويخضعن دورياً لفحوصات طبية للتأكد من عدم إصابتهن بأمراض». لائحة المستفيدين من المتعة تشمل أيضاً أصحاب المطاعم والدكاكين ومحال بيع «السندويشات» والمشروبات.

«الوضع في المعاملتين تعبان. قبل انتشار كورونا كانت الأمور مختلفة. اليوم، الشارع فارغ مثل الكراسي والطاولات»، قال صاحب أحد المطاعم وهو جالس على كرسيه يشاهد التلفاز محاطاً بموظّفيه. ويستطرد أن «الكباريهات عملت حركة حلوة في المنطقة بالنسبة إلى أصحاب المطاعم أمثالي. كنا نستقبل عشرات الزبائن يصطحبون فنانات أجنبيات». لكنّ الإقفال المتكرر للنوادي اللّيليّة بسبب الجائحة، أجبر الفتيات الأجنبيات على مغادرة لبنان. ويضيف: «الزبون يتجنّب الخروج في العلن مع سيدة عربية خوفاً من أن يتعرف أحد إليها».

عاملُ استقبال في أحد الفنادق يلوم الأجهزة الأمنيّة اللّبنانيّة على تقاعسها في ملاحقة الفتيات اللواتي يقفن أمام الفندق حيث يعمل. مع ذلك، لا يمانع في استقبالهن في مقابل تراجع عدد النزلاء والسياح، إذ «يدفعن بالعملة الخضراء لقاءَ غرفة لليلة كاملة ويحضرن زبائنهن». لذلك، يغضّ النظر بسبب «لقمة العيش»، ويحيل المهمة الأمنية على الدولة، «لأنني أطلب جواز السفر أو أي أوراق ثبوتية منهم وأرسل نسخاً منها إلى الأجهزة الأمنية».

صاحب أحد المتاجر، في القسم الشمالي من الشارع، كان يفتح محله 24 ساعة في اليوم. حالياً، «صرت أقفل عند العاشرة ليلاً». ويعرب عن خشيته من أن «الدعارة على وشك الانقراض. الأمر بات يقتصر على فتيات أفريقيّات وعربيّات»! ويردف: «حرام المعاملتين... ضيعانها»!

الخسائر 200 مليون دولار سنوياً

بحسب أرقام «الدولية للمعلومات»، كان عدد الأجنبيات العاملات في مجال الدعارة في لبنان، قبل عام 2019، يُقدّر بنحو 3500، غالبيتهن من دول الاتحاد السوفياتي سابقاً. وكانت لكل جنسية «تسعيرتها»، ومنها ما يزيد على 100 دولار في الساعة. النشاط الإجمالي كان يدرّ حوالى 250 مليون دولار سنوياً، تعود على الفتيات وأصحاب النوادي الليلية والفنادق والشقق المفروشة والمطاعم ومحالّ الهدايا والورود والمجوهرات والثياب... ويقدّر أن العائدات تراجعت اليوم إلى 50 مليون دولار سنوياً. فيما تراجع عدد علب الليل من حوالى 60 إلى 18. كذلك، طرأ تغيير على «شكل القطاع»، إذ إن غالبية العاملات الأجنبيات غادرن لتعوّض غيابهن عاملات عربيات.