المصدر: نداء الوطن
الكاتب: ريشار حرفوش
الخميس 21 آب 2025 07:08:31
لم تكن بكركي يومًا مجرّد مقرّ بطريركي أو رمز ديني مسيحي، بل هي في صميم التاريخ والوجدان اللبناني الركن الصلب في تكوين الكيان وضمانة بقاء لبنان. عمرها ألف وأربعمائة عام، واجهت أعتى الغزوات والإمبراطوريات، وخرجت دومًا أصلب وأبهى.
البطريرك مار بشارة بطرس الراعي لم يحد يومًا عن هذا النهج. على عهده، رفعت بكركي مجددًا لواء الحياد الإيجابي، ودعت إلى تحرير قرار الدولة من الوصايات والمحاور. والراعي لم يترك مناسبة إلّا وشدّد فيها على أنّ الجيش هو الضمانة الوحيدة، إلّا أنّ ما فاجأ اللبنانيين كان الردّ العنيف للمفتي الجعفري الممتاز الشيخ أحمد قبلان على الراعي. إذ اعتبر أنّ سلاح "حزب الله" هو سلاح "حركة أمل"، وسلاحهما معًا هو "سلاح الله"، وأن لا قوّة في الأرض تستطيع نزعه. بل ذهب أبعد من ذلك حين ساوى بين الطائفة الشيعية والمقاومة والسلاح، معتبرًا أنّ قرار الحرب والسلم ليس شأنًا حكوميًا، بل هو شأن "وطن وشعب".
إنّ منطق قبلان، بقدر ما يحمل من مبالغات، يكشف إلى أي حدّ وصل الانفصام بين مشروعَي الدولة والدويلة. ولعلّ أخطر ما فيه أنّه يجرّد لبنان من مبرّر وجوده كدولة ذات سيادة، ليحوّله إلى مجرّد ساحة صراع إقليمي.
في مواجهة هذا الخطاب، لا يسع اللبنانيين المؤمنين بالدولة إلّا أن يرفعوا الصوت: سلاحنا الحقيقي هو تمسّكنا بالحق والحرية، فحين يستهدف البعض بكركي أو يتطاول على مواقفها، فإنّه لا يمسّ فقط مؤسسة كنسية، بل يمسّ ركيزة لبنان السيادي.
مطر: الجيش هو الأقوى
في هذا السياق، رأى المطران بولس مطر أنه "قبل نحو ستة أشهر، وجّهتُ رسالةً إلى الإخوة الشيعة في لبنان، وقلت لهم: كم كان لبنان، منذ ثمانين سنة حتى اليوم، نافعًا لجميع اللبنانيين، وكم كنا جميعًا رابحين فيه. فحرام أن نخسر لبنان. إنقاذ لبنان هو أولويّتنا الكبرى، وعلى كلّ مسؤول أن يعي مسؤوليّاته، لا أن يتنصّل منها".
وقال: إنّ الجيش اللبناني أقوى من أيّ جهةٍ منفردة في حماية لبنان واللبنانيين، هذه هي الحقيقة اليوم، ونرجو أن يلتفت الجميع إلى حاجات الوطن".
وردًّا على المفتي قبلان، قال: "إنّ الوضع بين المرجعيات الروحية يؤثّر كثيرًا في الناس، لذلك، على كلّ مرجع ديني أن ينظر إلى الأمور من مختلف الزوايا، لا من زاويةٍ واحدةٍ فقط، وأنا أقول إنّ المفتي قبلان كان صديقًا لي، وسيبقى، لكنّنا جميعًا مدعوون لأن ننظر إلى الأمور بموضوعية وشمولية".
أما عن بكركي والمسّ بمقدساتها، فقال مطر: "بكركي شعب، ونحن أبناء بلد واحد، ونحن شعبٌ واحد، ينبغي أن نحبّ بعضنا بعضًا، وأن نتذكّر أنّنا كنّا دائمًا معًا، ولم نحارب إلّا من حاول أن يفرّقنا".
خضرا: المقاومة تخدم إسرائيل
على خطٍ موازٍ، قال رئيس مؤسسة لابورا الأب طوني خضرا لـ "نداء الوطن": "أن نصل إلى وقت يُقال فيه إنّ السلاح هو "سلاح الله"، فهذه قمّة الغباء والانحراف عن جوهر الإيمان، فالمسيح نفسه، حين رفع بطرس سيفه ليدافع عنه، قال له: "رُدَّ سيفك إلى غمده، لأنّ كل من يأخذ بالسيف بالسيف يُؤخذ". هذه عقيدتنا المسيحية: نؤمن بالحوار، ونؤمن بالثقافة، ونؤمن أنّ المقاومة لا تُختصر بالسلاح".
وتابع: "حين يُزرَع في عقول اللبنانيين أنّ السلاح مُقدّس أو هو "لله"، فهذا يعني عمليًا أنّنا عاجزون عن التغيير، وعن بناء دولة موحّدة تحت شعار سلاح الجيش اللبناني وحده. عندها تصبح المشكلة أكبر من قدرة البشر".
وأضاف خضرا: "الأخطر أنّ من يعارض هذا المنطق يُوصَم فورًا بالخيانة أو الصهيونية، لكن الحقيقة أنّ من يتّهم هذا العدد الهائل من اللبنانيين، هو أقرب إلى الصهيونية منه إلى لبنانيته، وكل الأحداث برهنت أنّ السلاح لم يحمِ لبنان، ولا الشعب اللبناني، ولا حتى الطائفة الشيعية. بل على العكس، أدخل البلد في صراعات مدمّرة".
وختم: "ليس هناك لبناني واحد يعتقد أنّ إسرائيل صديقة، كلّنا نعرف أنّها عدوة، لكنّ الطريقة التي تُمارَس بها المقاومة اليوم، تخدم إسرائيل أكثر مما تُضرّها".
كنعان: لتقديم اعتذار علني
من جهته، اعتبر المحامي بول يوسف كنعان أن "الراعي مقام روحي ووطني جامع، أعلى من أي إساءات أو حملات، وأن البطريركية الوطنية كانت ولا تزال "أم الكيان اللبناني".
ورأى كنعان عبر "نداء الوطن" أن ما صدر عن البعض من أوصاف مسيئة ولغة تخاطب غير سليمة، تستدعي الاعتذار أولًا عن هذه السقطة الخطيئة، وتتطلّب من المرجعيات الروحية والسياسية التنبيه والتشديد على احترام المقامات الوطنية، وتقديم الاعتذار العلني.
وشدد كنعان على أن البطريركية التي رفعت الحياد درعًا للبنان، تستمر في ذلك، تحت سقف المصلحة الوطنية، حتى لا تتكرر الحروب.
مهما حاول البعض أن يحجب صوت بكركي، أو أن يضعها في خانة المواجهة مع طائفة بعينها، فإنّ التاريخ والوجدان يشهدان أنّها صخرة الكيان اللبناني. هي التي صنعت استقلاله الأول، والثاني وستصنع استقلاله الثالث...
أما محاولة إلباس "حزب الله" عباءة الأنبياء فهي قفزة فوق الواقع، وتشويهٌ للرسالة السماوية التي أتت لتبشّر بالسلام لا بالخراب، وإذا كان قبلان يلوّح بتاريخ "انتفاضة 6 شباط" ويستعيد أمجادها كحدث استرداد للوطن، فإنّ اللبنانيين لا ينسون أنّ تلك الانتفاضة فتحت الباب لانقسام دموي وعسكرة الشارع، وأسقطت معادلة الدولة لمصلحة الدويلة. فهل المطلوب إعادة إنتاج ذاك المشهد؟