قمة ترامب - بن سلمان: استثمارات تريليونية وزخم لتوسيع "اتفاقات أبراهام"

نظم البيت الأبيض استقبالًا مهيبًا يليق بحليف بحجم المملكة العربية السعودية، في خضم تغييرات إقليمية جذرية ستفضي في نهاية المطاف إلى تشييد نظام أمني جديد للشرق الأوسط. فقد حظي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان باستضافة "ملكية" من قِبل الرئيس دونالد ترامب، رغم أن هذه الزيارة لم تُعدّ زيارة دولة لأن الأمير محمد ليس من الناحية التقنية "رئيس دولة". وخلافًا للاستقبالات العادية التي تحصل عند البوابة الشمالية للبيت الأبيض، انتظر ترامب ولي العهد عند البوابة الجنوبية على سجادة حمراء، وسط أبرز وزراء إدارته وحرس الشرف الذي اعتلى الخيول ورفع العلمين الأميركي والسعودي، فيما حلّقت 6 مقاتلات ترحيبًا بالضيف السعودي العزيز على سيّد البيت الأبيض.

زُيّنت أعمدة الإنارة في ساحة لافاييت في واشنطن بالأعلام السعودية الخضراء إلى جانب الأعلام الأميركية، وهي لفتة لا تُمنَح عادة للضيوف الأجانب. أطلع ترامب، ولي العهد، على التغييرات الجمالية التي أجراها في الرواق المحاذي لحديقة الورود في البيت الأبيض، وتنزه الرجلان ببطء أمام "ممرّ الشهرة الرئاسي" في أثناء تبادلهما أطراف الحديث، في وقت يترقب فيه حلفاء واشنطن وخصومها في المنطقة والعالم، انعكاس اللقاء على "ممرّ السلام الإقليمي"، إن صحّ التعبير، الذي يريد ترامب تحقيقه خلال ولايته.

توقف ترامب وبن سلمان لدقائق أمام صور الرئيسَين الأميركيين السابقين توماس جفرسون وفرانكلين روزفلت، كما أمام صورة لقلم توقيع آلي معلّقة في المكان الذي من المفترض أن توضع فيه صورة الرئيس السابق جو بايدن، قبل أن يدخلا معًا إلى المكتب البيضوي. لم يختلف اللقاء في المكتب البيضوي عن أجواء الاستقبال الحافلة. فحرص ترامب على الإشادة بـ "صديقه العزيز"، الذي بدوره تعهّد بزيادة الاستثمارات السعودية في الولايات المتحدة من 600 مليار إلى تريليون دولار، مؤكدًا أنه لا حدود للفرص في تعاوننا مع الولايات المتحدة، فالعلاقات السعودية - الأميركية حيوية ولا يمكن استبدالها لأي من الطرفين. وصرّح ترامب بأن استثمار تريليون دولار في البلاد يعزز الأمن القومي الأميركي.

تناول الرجلان خلال إحاطة إعلامية مع الصحافيين، ملفات وقضايا متنوّعة من الاقتصاد والتكنولوجيا، مرورًا بالاتفاق الدفاعي بين بلديهما وتزويد المملكة بمقاتلات "أف 35"، وصولًا إلى النووي الإيراني وسوريا وغزة وتوسيع نادي دول "اتفاقات أبراهام". وأكد بن سلمان رغبة بلاده بأن تكون جزءًا من "اتفاقات أبراهام" في أقرب وقت ممكن، إلّا أنه ربط الأمر بضرورة التأكد من أن "الطريق نحو حل الدولتين مرسوم بوضوح". وأكد أن المملكة تريد السلام للفلسطينيين والإسرائيليين وأن يتعايشوا بسلام في المنطقة، مثنيًا على عمل ترامب من أجل إحلال السلام العالمي. وأكد كلّ من ترامب وبن سلمان أنهما أجريا محادثات موسّعة في شأن جهود التطبيع قبل الزيارة.

وقال ترامب: "لا أريد استخدام كلمة التزام، لكن كانت لدينا محادثة جيّدة جدًا" في شأن "اتفاقات أبراهام". وحسم ولي العهد أن السعودية "تؤمن بمستقبل أميركا"، وعندما سُئل عن مدى واقعية استثمار السعودية لتريليون دولار في أميركا في ظلّ انخفاض أسعار النفط، جزم بأن المملكة لا "تخلق فرصًا وهمية لإرضاء أميركا أو لإرضاء ترامب"، موضحًا أن السعودية لديها "طلب هائل" على قدرات الحوسبة وتسعى إلى الحصول على رقائق أميركية، في حين أكد ترامب العمل على "الموافقة على توفير رقائق متقدّمة للسعودية"، لافتًا إلى أنه "يرى إمكانية" حدوث صفقة لنقل التكنولوجيا النووية الأميركية إلى السعودية التي تسعى إلى إطلاق برنامج نووي مدني، لكنه لم يحدّد أي جدول زمني محتمل. وأفادت "بلومبرغ نيوز" بأن واشنطن تعتزم الموافقة على بيع رقائق لشركة "هيوماين" السعودية المتخصّصة في مجال الذكاء الاصطناعي.

وإذ كشف الرئيس الجمهوري أن بلاده توصّلت إلى اتفاق دفاعي مع المملكة، أكد أن أميركا ستبيع مقاتلات "أف 35" للسعودية في إطار اتفاق مماثل للذي عقدته مع إسرائيل، بحيث اعتبر أن السعودية وإسرائيل في مستوى يسمح لهما بالحصول على "أفضل" مقاتلات "أف 35". بالتوازي، تحدّث ولي العهد السعودي عن أن المملكة تعمل بشكل وثيق للمساعدة في إبرام اتفاق جيّد بين أميركا وإيران، بينما رأى ترامب أن طهران ترغب بشدّة في التوصّل إلى اتفاق، ولو قالوا عكس ذلك.

وردًا على سؤال حول هجمات 11 أيلول 2001 الإرهابية، أوضح بن سلمان أنه "علينا التركيز على الوقائع، وبناءً على كثير من الوثائق، فقد استغلّ أسامة بن لادن أفرادًا سعوديين في هجوم 11 أيلول لهدف رئيسي هو تدمير العلاقات السعودية - الأميركية، ومن يتبنى هذا الموقف، يساعد في تحقيق هدف بن لادن". واعتبر أن بن لادن "كان يعلم أن العلاقة القوية بين أميركا والسعودية لا تخدم التطرّف والإرهاب، وعلينا... أن نواصل تعزيز هذه العلاقة الضرورية للأمن في العالم، ولمواجهة التطرّف والإرهاب".

وبعد اختتام الإحاطة الإعلامية، توجّه ترامب وبن سلمان إلى غداء عمل، فيما تضمّنت الزيارة أيضًا عشاء فاخرًا في الغرفة الشرقية. وتحدّث ترامب مازحًا أنه ربما "كوّن العديد من الأعداء" لأن الكثير من الناس لم تتم دعوتهم إلى العشاء أو لا يستطيعون الحضور بسبب محدودية المساحة. وكان مجلس الوزراء السعودي برئاسة الملك سلمان بن عبد العزيز قد أكد أن زيارة ولي العهد إلى واشنطن تأتي في إطار تعزيز العلاقات الثنائية والشراكة الاستراتيجية بين البلدين الصديقين في مختلف المجالات، جنبًا إلى جنب، مع السعي إلى تحقيق رؤيتهما المشتركة نحو شرق أوسط يسوده الأمن والاستقرار. وأفادت وكالة "واس" بأن حجم التبادل التجاري بين السعودية وأميركا تجاوز خلال الأعوام الـ 10 الماضية 500 مليار دولار، ما يجعل أميركا ثاني أكبر شريك للمملكة في الواردات.

ومن المقرّر أن تركز أعمال منتدى الاستثمار السعودي - الأميركي الذي سيعقد اليوم في واشنطن، بمشاركة مئات من الرؤساء التنفيذيين لكبرى الشركات الأميركية والسعودية، على مجالات التكنولوجيا والطاقة والذكاء الاصطناعي والرعاية الصحية والسياحة والترفيه. وأفادت وكالة "رويترز" بأنه من المتوقع أن يضمّ المنتدى رؤساء تنفيذيين من شركات "شيفرون"، و"كوالكوم"، و"سيسكو سيستامز"، و"جنرال ديناميكس"، و"فايزر"، مشيرة إلى مشاركة كبار المسؤولين التنفيذيين من شركات "آي بي أم"، و"غوغل"، و"سيلزفورس"، و"أندريسن هورويتز"، و"هاليبرتون"، و"أدوب"، و"أرامكو"، و"ستيت ستريت"، و"بارسونز كورب".

وأكد الرئيس التنفيذي لمجلس الأعمال السعودي - الأميركي تشارلز حلّاب أن الشركات الأميركية تُظهر اهتمامًا قويًا ومتزايدًا بمجموعة واسعة من القطاعات التي تتماشى بشكل وثيق مع أهداف "رؤية السعودية 2030"، لافتًا إلى أن الشركات الأميركية تُقدّم في كل المجالات خبرات عالمية المستوى وابتكارات وتقنيات تُكمّل طموحات المملكة في التنوّع الاقتصادي والقدرة التنافسية العالمية، ما يعكس ثقة هذه الشركات في توجّه المملكة.

تقاطعت مصالح "أميركا أوّلًا" مع "رؤية 2030" السعودية في ظلّ بيئة جيوسياسية دولية شديدة التوتر. ترتبط أميركا والسعودية بمجموعة شراكات استراتيجية عززها ترامب وبن سلمان لتوسيع أرضية المنافع المشتركة وتعميق التحالف بين بلديهما. تبقى عين ترامب على انضمام المملكة إلى "اتفاقات أبراهام"، لكن الأمر مرتبط بمسار واضح نحو قيام دولة فلسطينية. وربّما يشكّل تبني مجلس الأمن الدولي قرارًا صاغته الولايات المتحدة يؤيّد خطة ترامب لإنهاء حرب غزة ويسمح بإرسال قوة دولية لتحقيق الاستقرار إلى القطاع، والذي ينصّ على أن "الظروف قد تتهيّأ في نهاية المطاف لمسار جاد نحو تقرير المصير الفلسطيني وإقامة دولة"، بارقة أمل لوضع أسس متينة لحل الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، وتاليًا تعبيد الطريق أمام انضمام السعودية، ومعها مجموعة دول عربية وإسلامية، إلى "اتفاقات أبراهام".