قنّاصون وجنود تركوا الجبهة والسلاح والتحقوا بالأعداء... هذا ما حصل ليلة الميلاد!

نتحضّر لوداع الفترة الميلادية زمنياً، مزوَّدين بذخائر غير مخلوقة، تساعدنا على التوغُّل أكثر في الأسرار المقدّسة، وفي فَهْم أن الاحتفال برأس السنة الجديدة ليس افتتاح روزنامة من خلال انتزاع أول ورقة منها، بل هو تعامل مع عام جديد من أعوام تجسُّد السيّد المسيح في الزمن.

ألدّ الأعداء!

كيف نودّع الميلاد (في الزمن)، بلا ذكر أعاجيب ميلادية تنقل الإيمان من المجال النّظري الى العملي؟ وهي تشبه الرب الذي ما اكتفى بالبقاء بعيداً في السماء، بل نزل الى تفاصيل بني البشر اليومية، بواسطة التجسُّد.

من بين أعاجيب ميلادية كثيرة، نذكر ما يُدعى بحسب التعبير البشري، بـ "هدنة" عيد الميلاد، بين جنود ألمانيا وبريطانيا خلال الحرب العالمية الأولى، التي حصلت ليلة عيد الميلاد في عام 1914، أي بعد أشهر قليلة على انطلاق تلك الحرب، ورغم أن ألمانيا وبريطانيا كانتا من ألدّ الأعداء خلالها.

“Silent Night”

ففي تفاصيل تلك الليلة، وبينما كان الجنود البريطانيون يخشون التعرّض لهجوم ألماني، (خلال معارك صدّ الهجوم الألماني على فرنسا عبر بلجيكا)، ويتحضّرون له، سمعوا أنغام ترنيمة “Silent Night”  بالألمانية، تخرج من جهة المعسكر الألماني.

عندها، تشجّع الإنكليز، وبادروا نحو معسكر الألمان بحَذَر شديد. ولكن الألمان قاموا بالخطوة نفسها، فتبادلوا المعايدات، وبعض الهدايا التذكارية والأطعمة القليلة التي كانت بحوزتهم، وتساعَدوا على دفن بعض جثث الجنود في مراسم مشتركة. وحتى إن الطرفَيْن لعِبا مباراة في كرة القدم، انتهت بفوز الألمان على البريطانيين بنتيجة 2 - 1.

مبادرات

حصلت تلك الأعجوبة الميلادية الشافية من التباغُض، بعد فشل مبادرات متعدّدة للسلام أُطلِقَت قبل عيد الميلاد، في ذلك العام. حتى إن "الحبر الأعظم" البابا بنيديكتوس الخامس عشر كان طالب بحرارة شديدة، في 7 كانون الأول عام 1914 (عشيّة عيد الحبل بلا دنس)، بهدنة رسمية بين جميع المتحاربين، وبأن تصمت المدافع في اللّيلة التي رنّمت فيها الملائكة على الأقل، أي في ليلة الميلاد المجيد، ولكن طلبه رُفِضَ من قِبَل أعلى المراجع.

ورغم ذلك، نجد أن ما هو غير مستطاع عند الإنسان، مستطاع عند الله، فانتصرت مغارة بيت لحم على صوت الرّصاص، وعلى الخنادق، في تلك الليلة.

إطلاق نار؟

وتكرّر هذا النوع من الأعاجيب الميلادية مرات عدّة، في وقت لاحق. فعلى سبيل المثال، اجتمع جنود ألمان وفرنسيون وسويسريون، في موقع حدودي سويسري، عشيّة الميلاد عام 1916، واحتفلوا في شكل لم يُعجب قادتهم. فنُقِل الجنود الى مواقع مختلفة في وقت لاحق، إذ إن التلاقي الميلادي كان يُميت فيهم الرغبة بتبادُل إطلاق النار باتّجاه بعضهم البعض.

حتى إن هدنات عيد الميلاد، شملت عيد الفصح المجيد أيضاً، وعلى الجبهتَيْن الغربية والشرقية، وذلك بمعزل عن اختلاف تاريخ التعييد بين الكاثوليك (بحسب التقويم الغريغوري) والأرثوذكس (بحسب التقويم اليولياني)، وذلك قبل سقوط روسيا القيصرية. وذُكِرَ في بعض المراجع أن النمساويين بادروا في إحدى المرّات، فاستجاب الروس. والتقى الجنود مع بعضهم البعض.

جذور مسيحية

وكما أن الرب المتجسّد اضطُّهِد منذ ميلاده وحتى صلبه، هكذا أيضاً أعماله، إذ إن الإعلان عن أعاجيب الميلاد والفصح، تراوحت بين التزام الصّمت في بعض البلدان الأوروبية، وبين النّقل الجزئي للوقائع، في بعضها الآخر.

فيما جنّدت بعض القيادات الأوروبية مجموعات من المفكّرين والكتّاب لبثّ ونشر كلّ ما ينزع الصّفات الميلادية والفصحية عنها، خوفاً من فقدان دعم الشعوب الأوروبية لاستمرار الحرب، والضّغط على القيادات السياسية والعسكرية لوقفها.

فالمجتمعات الأوروبية ما كانت دخلت العلمَنَة بمفهومها الحالي، في ذلك الوقت، وكانت لا تزال تحتفظ بالكثير من جذورها المسيحية.

كنوز

وتعبيراً عن رفض التآخي، راحت بعض القيادات العسكرية تحظّر على الجنود التلاقي مع الأعداء خلال الأعياد، مع تهديدهم بتداعيات عدم الإنضباط. فأكملت الحرب طريقها، ومعها أعداد القتلى والجرحى بالارتفاع، الى أن انتهت في عام 1918، مُنهِكَةً أوروبا.

فكَم من كنوز مدفونة في تراب الأرض؟ وكم من جواهر مسجونة في خزائن؟ ولكن الدّفن والسّجن، لا يغيّران في واقع أن المدفون هو كنز، والمسجون هي جواهر. فلنحفر عميقاً، وعميقاً جداً، في عمق أعماقنا. فهناك ملكوت الله، الذي لا يحدّه عقل، والذي يفهم أسرار الميلاد الفصحية، حتى ولو أراد الفاهمون أن لا يفهموا.