قوّة لبنان تكمن في دبلوماسيته القويّة

كتب سامي أبي خليل في النهار:

 

أحداث وكلمات الأمس تستيقظ في ذكرياتنا وفي واقعنا. كان بيار الجميل الأب يكرر عبارته الشهيرة "قوة لبنان تكمن في ضعفه". ولم يعتبرها كُثر وخاصة صغار السن وغيرهم ممّن لم يفهم أبعادها الفلسفية والدبلوماسية، وغيرهم من  محبّي الحروب وكأنّهم قد نظروا إليها بخفّة معيّنة كما لو كانت الحروب لعبة أطفال، وخاصة خصوم بيار الجميّل وما يمثله. هذه العبارة كانت تنسجم مع إستراتيجية لبنان منذ بدايته، أو تلخّص دبلوماسيته القوية والرابحة للجميع وبكلفة لا تقارب إنسانياً، مادياً، معنوياً وفي عدد الأجيال المفقودة نسبة إلى الحروب التي دمّرته مراراً منذ نصف قرن لغاية اليوم. هذا إذا فهمنا العبارة وطبّقناها. ممكنة قراءة العبارة بشكل أوضح إن قلنا: "قوة لبنان هي قوة دبلوماسيته". وهذا لم يمنع أبداً لبنان وجيشه من تلقين دروس إستراتيجية وعسكرية للعدوّ حينما حاول مراراً التسلل أو الاجتياح عندما كان الجيش موجوداً وفاعلاً في الجنوب.

  كان هذا السبب الأول الرئيسيّ والأهمّ لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان ولا يزال موضوع جدل حساس. هناك من يريد الحرب مع إسرائيل وهناك من يفضّل الدبلوماسية أوّلاً. مع العلم أنّه في سبعينات القرن الماضي كانت المنظمات الفلسطينية المتطرفة وحدها تقود عمليات لها من جنوب لبنان بعد الـ67، وكان الخلاف بين اللبنانيين حول هذه النقطة.

ينقصنا اليوم الانسجام مع الدولة في لبنان لأن دبلوماسية لبنان الرسمية اليوم منهارة. وهنا سجّل أعداء لبنان انتصارهم الأكبر. لقد تمّ تقزيمها بشخص واحد فاقد النظرة البعيدة فهو لا يريد مشاركة وجهة نظره مع الشركاء في البلاد خوفاً من كشف خطّته الغامضة، أو ليست لديه خطة رغم التزامه بنقاط محدّدة من خلال توقيع اتفاق وقف إطلاق النار الأخير مع إسرائيل. إنّ البلد بأكمله في حالة من النسيان بينما يعود هذا الشخص إلى رشده فهو يحتكر الدولة والسلطة. هذه حالة لبنان دون قرار ودون رئيس. والدبلوماسية كالخدمات المقدّمة للمواطنين أيضاً، في خبر كان. فالمغترب وخاصّة الطلاب منهم أيتام الوطن بدلاً من أن يكونوا منقذيه وأمله ومستقبله. وهكذا تفعل الحروب، تخسرنا ثرواتنا البشرية وغيرها.  دعونا نعود إلى ذكر بيار الجميّل. كثيرين جربوا قتل الرجل لطمش العبارة أو خنقها مع أبعادها مثل العيش المشترك وعدم الانزلاق في حروب الآخرين مثلاً. هدفهم كان ويبقى وهو، كما حدث في أغلب الاغتيالات، افتعال أحداث أعظم إعلامياً وعلى الأرض لتغطّي فوراً حدث اغتيال الشخصية، الذي لم يحصل هذه المرة، أو اتّهام شخصية أخرى بالاغتيال وهذا حصل مراراً.  وهنا كان العدو من الداخل والخارج يترقب فرص الفتنة للانقضاض على الوطن لبنان. وساحة الجريمة لا تختصر على عين الرمانة بل على الوطن. إن افتراس لبنان أمر سهل منذ أربعين سنة ولا نعرف إلى متى الاستقرار.

 هذا التعقيد النفسي يذكرني بالعناد السخيف الأحمق والمعتوه في عهد الملك شارل الأول سنة ١٦٤٠، حيث ساد هذا النوع من العقلية الرجعية  في إنجلترا، ما أدّى إلى الاحاطة به من قبل أوليفر كرومويل، عضو مجلس العموم في بريطانيا. بعد إعدام الملك بجرم الخيانة العظمى تمّ تثبيت قوانين حديثة ومرنة، وفي غضون خمس سنوات من حكم كرومويل، ضمنت للمملكة المتحدة أن تعيش في سلام وأن تصبح قوة اقتصادية عظمى وبرلمانها يعمل بمرونة لحكم البلاد. هذا هو أوليفر كرومويل الذي كان أصلاً يستعدّ للمغادرة إلى المستعمرات الأميركية قبل حدوث التمرّد على الملك.   فعلاً لا أحد يستحقّ الموت، لكنّ العدو يرى في هذا العمل التحريضي الفتنوي شراً متعمّداً وضرراً مدروساً ونفعاً محتماً له لخلق البلبلة والفوضى وتدمير ما تبقّى من لبنان ورموزه وقدراته لمنعه من النهوض مجدداً. وهناك شخصيات لها وزنها وتوازنها يشكّل للعدو سبباً ليطيح بها كما حصل بعد اغتيال كمال جنبلاط، بشير جميل، رفيق الحريري، وغيرهم ممّن أراد استقرار لبنان ودولته وأهله فأطاحوا به. فالعدو يراهن على ردّات الفعل ويحضّر لها أكثر من الفعل.  هل كان للقدر دور في ذلك أم أنّ قراءة التاريخ والأحداث لم تحصل بعد كما يجب كي يتجنب اللبنانيون الكارثة تلو الأخرى؟ إذا كان جوابكم عدم نضج السياسيين أو بعضهم فأفضّل القول إنّ عدم نضوج الناخبين الذين يبدو أنّهم يتصرّفون كمستهلكين لعدم الاستقرار في لبنان ويسخرون من الجميع إلّا من أنفسهم. الناخب لا يشكّك في نفسه بما فيه الكفاية ليأخذ القرار المناسب وقت الاقتراع والملل قد اكتسحه أيضاً.  نريد مواطنين يتمتعون بالوضوح والنضوج مع الوعي الكافي وثقافة المواطنية  للإطاحة بنواب يعرقلون  قيامة الدولة المستقلة، دبلوماسيتها قوية، عدالتها مستقيمة، طبيعتها مستدامة وكلّ ما يلزم للدولة لتأمين استقرار وسلامة لبنان، ولخدمة الإنسان الإنسانيّ في لبنان والمهجر.