كابوس الصفقات جان العلّية يهزم باسيل

صدّقت الهيئة العامّة لمجلس النواب على آخر صيغ قانون الشراء العام، الذي ينظِّم مختلف أشكال الصفقات والمناقصات العموميّة، ويستبدل لهذه الغاية دائرة المناقصات بهيئة الشراء العام. خطف الاهتمام الإعلامي بالبطاقة التمويليّة، التي صُدِّق على مشروع قانونها في الجلسة نفسها، الأضواء عن أهمّ ما في قانون الشراء العام الذي أُقِرّ، سواء في ما يتّصل بالثغرات التي تُرِكت في القانون عن قصد، أو في ما يخصّ الألغام التي حاول باسيل زرعها في الصيغة النهائيّة وفشل.


منذ بداية مناقشة القانون في اللجنة الفرعيّة إلى حين مناقشته في اللجان المشتركة، ثمّ التصويت عليه في الهيئة العامّة، استمات جبران باسيل وتكتّل لبنان القوي في جميع المراحل لتضمين القانون بنوداً تحول دون رئاسة المدير العام الحالي لدائرة المناقصات جان العلّيّة لهيئة الشراء العام خلال الفترة الانتقاليّة بعد تشكيلها بموجب القانون، على الرغم من أنّ منطق الأمور يفرض ذلك لكون الكادر البشري لدائرة المناقصات سينتقل تلقائيّاً إلى هيئة الشراء العام بعد تشكيلها. وانطلق هذا المسعى من خلفيّات ثأريّة قديمة يكنّها باسيل للعلّيّة، نظراً إلى دور العلّيّة المعروف في الحؤول دون المصادقة على صفقة مضاعفة إنتاج البواخر في سنوات 2017-2018 بسبب المخالفات التي تضمّنتها المناقصات.


في المحصّلة فشل باسيل في الحصول على تأييد أيّ من الكتل النيابيّة الأخرى الوازنة، وأصرّ المجلس النيابي على الوقوف في صف العليّة، فيما تُرك التيار الوطني الحرّ يخوض وحده في المجلس معركة الانتقام من العليّة وإقصائه. ولذلك سلّمت الصيغة النهائيّة للقانون، التي صوّتت عليها الهيئة العامّة، بفكرة رئاسة العليّة لهيئة الشراء العام خلال الفترة الانتقاليّة، من دون تضمين هذه الصيغة الألغام التي حاول باسيل زرعها للعليّة. وما إن خسر باسيل المعركة بعد التصويت على القانون في الهيئة العامّة، حتّى بدأ بالتلويح بالطعن أمام المجلس الدستوري، بحجّة عدم امتلاك المجلس النيابي صلاحيّة تضمين القانون أيّ تعيينات إداريّة.

 

تؤكّد مصادر قانونيّة لـ"أساس" أنّ فرص التيار الوطني الحرّ في الفوز بأيّ طعن ضئيلة جدّاً، خصوصاً أنّ القانون لم يبادر إلى القيام بأيّ تعيينات إداريّة في إدارات رسميّة قائمة، بل نصّ على تولّي إدارة المناقصات بهيكليّتها الحاليّة مهامّ هيئة الشراء العام بشكل انتقالي إلى حين القيام بالتعيينات وإصدار المراسيم التطبيقيّة التي ينصّ عليها القانون. وهذه المسألة، وفقاً للمصادر نفسها، لا تمثّل أيّ تجاوز دستوري للصلاحيّات التشريعيّة للمجلس، لكون هذا الأخير اكتفى في هذه الحالة بتنسيق انتقال المهامّ بين الإدارتين، حرصاً على عدم حصول أيّ شغور في حال تأخّر الحكومة في إقرار المراسيم التطبيقيّة وإجراء التعيينات، في حين أنّ مجلس الوزراء سيحتفظ بحقّ إجراء التعيينات متى يشاء بعد إقرار القانون.

 

يُشار إلى أنّ الكثير من القوانين، التي أصدرها المجلس النيابي، يتضمّن بنوداً تنسّق هذا النوع من الفترات الانتقاليّة، بما فيها قانون إنشاء المجلس الدستوري نفسه الذي ينصّ مثلاً على ممارسة أعضائه لمهامّهم خلال مراحل معيّنة بعد انتهاء ولايتهم، بانتظار تعيين أعضاء جدد. وفي حالة هيئة الشراء العامّ بالتحديد، يمكن أن يؤسّس القانون لفراغ لا تُحمد عقباه مع غياب هذا النوع من البنود الانتقاليّة، خصوصاً إذا لم يبادر مجلس الوزراء قريباً إلى القيام بالتعيينات وظلّت الهيئة حبراً على ورق، كحال العديد من الهيئات الناظمة الأخرى.

 

كلّ هذه الحسابات لا تهمّ باسيل، الذي يبدو أنّه يتعامل اليوم مع مسألة العليّة كمسألة شخصيّة جداً، وهو ما يفسّر حضوره بنفسه إلى جلسة اللجان المشتركة لمحاولة تأليب بعض الكتل النيابيّة والحصول على دعمها، من دون أن يسجّل أيّ نجاح يُذكَر. لا بل بدا واضحاً أنّ فكرة الخسارة أمام العليّة مثّلت ضربة شخصيّة قاسية لباسيل، إلى الحدّ الذي دفعه إلى التصريح بتشنّجٍ عن التوجّه إلى الطعن بالقانون كلّه، على الرغم من علم باسيل المسبق أنّ الرأي العامّ يعلم خلفيّاته الثأريّة المتّصلة بصفقة البواخر، والمتّصلة أيضاً برغبته بالتخلّص من القيود التي يفرضها العليّة على صفقات وزاراته.

 

أبرز الثغرات، التي انطوت عليها الصيغة النهائيّة للقانون، كانت عدم فرضه الكشف عن أصحاب الحقّ الاقتصادي، أي الأصحاب الفعليّين، للشركات المتعاقدة مع الدولة، أو تلك التي تشترك في مناقصات عموميّة، كما هو الحال في الكثير من دول العالم الأخرى. هذه الثغرة ستسمح بإخفاء الهويّة الحقيقيّة للفائزين بالمناقصات، وهو ما يعني إخفاء أيّ تضارب مصالح يمكن أن يقع خلال الاشتراك في المناقصات العموميّة. ولم يربط قانون الشراء العامّ آليّات تنفيذه بقانون حقّ الوصول إلى المعلومات، الذي أقرّه المجلس النيابي سابقاً، متسبّباً، وفق "الجمعيّة اللبنانيّة لتعزيز الشفافيّة"، بتشتيت المنظومة التشريعيّة التي تضمن حقّ الاطّلاع على المعلومات المتّصلة بالإدارة العامّة وعقودها.

 

يمكن للقانون أن يساهم في تحقيق أمور إيجابيّة، ومنها فرض موجب التخطيط على الإدارات العامّة. وهو يجبر الإدارات على وضع تقديرات مسبقة لإنفاقها على المشتريات، وفقاً لخطة سنوية متكاملة، ويفرض عليها أيضاً وضع تقديرات لقيمة المناقصات التي ستُجرى خلال العام. وهذا يسهّل على هيئة الشراء العام فرض رقابة مسبقة على الإدارات الرسميّة. وإرسال كلّ هذه الخطط السنويّة إلى الهيئة يمكّنها من توحيدها ضمن خطة شراء سنويّة يمكن عرضها دورياً، فتزيد بهذه الآلية شفافيّةُ المناقصات العموميّة وعلانيتها أمام جميع الشركات المهتمّة. وبالنسبة إلى المناقصات، يفرض القانون أيضاً معايير موحّدة على جميع الإدارات الرسميّة التي قد تنفق من المال العام، من دون التفريق بين الجهات الرسميّة على أساس طبيعتها.

 

من الأكيد أنّ إقرار هذا القانون، ولو تضمّن القانون بعض الثغرات، سيمثّل خطوة نحو الأمام في كلّ ما يتعلّق بأنظمة الصفقات والمناقصات العموميّة. وهي خطوة لم يكن من الممكن أن يقدم عليها المجلس النيابي لولا ضغط المجتمع الدولي الذي دعا إلى سنّ قوانين إصلاحيّة. لكنّ التحدي الأساسي يكمن في صياغة المراسيم

 

التطبيقيّة والتعيينات لاحقاً لإدخال القانون حيّز التنفيذ، وإلا ستبقى جميع مندرجاته قواعدَ نظريّة موجودة على الورق. وتؤكّد تجربة الكثير من القوانين الإصلاحية المماثلة أنّ إفشال تطبيق القانون بهذه الطريقة مسألة محتملة جدّاً، خصوصاً إذا تعلّق الأمر بمسألة حسّاسة للقوى السياسية، مثل المناقصات والصفقات العموميّة.