كلّ الخوف على لبنان كورقة تفاوض إقليميّة

في تطورات إقليمية بالغة الخطورة على غرار ما يحصل في غزة راهناً والانخراط الدولي والإقليمي فيها، أكثر ما يخيف لبنان أن يكون ورقة تفاوض تعيد الى الذاكرة على الأقل تجارب سابقة في أحداث خطيرة مماثلة وكان أبرزها في التاريخ الحديث تجربة التسليم الأميركي بسيطرة النظام السوري على لبنان بعد موافقة هذا الأخير على الانخراط في الحرب ضد العراق لاجتياحه الكويت. ومع أن أحداً لا يأتي على ذكر ذلك راهناً، فإن هناك من يعتقد أن الخوف يجب أن يكون أكبر اليوم من أي وقت مضى ولا سيما في ظل غياب أي وجود حقيقي للدولة اللبنانية وعدم وجود رأس لها ولا مواقع نفوذ تُذكر.

وليست سوريا هذه المرة في موقع التفاوض حول لبنان بل هي إيران التي لا يكاد يغادر وزير خارجيتها حسين أمير عبداللهيان قطر حيث تجري المفاوضات الفعلية حول الحرب على غزة منخرطاً في لقاءات متتالية مع رئيس المكتب السياسي لحركة حماس المقيم في قطر إسماعيل هنية.

فهنا، وفي غمرة الشعار المتعلق بـ"وحدة الساحات" أكثر ما يبدو صارخاً في هذا السياق غياب النظام السوري كلياً ولا مؤشرات على أي حياة له على الأقل في الدعم الخطابي للفلسطينيين وما يجري في غزة. يتحدث البعض عن معطيات أفادت أن بشار الأسد تلقى تحذيراً منذ عملية حركة حماس ضد إسرائيل بالتزام التحفظ لئلا يطاول رد الفعل إطاحته فعلاً.

ولكن ليس أكيداً إن لم تكن هذه المعطيات هي في إطار تبرير غياب رد الفعل لدى النظام وكأن ما يجري في غزة يحصل في إحدى الجزر الاستوائية البعيدة. ولا يختلف اثنان على أن النظام السوري ضعيف وهو استخدم لبنان دوماً كساحة لمناوشات أو حربه مع إسرائيل ولم يفعّل جبهة الجولان مرة خلال أكثر من ثلاثة عقود حتى الآن. ولكن باستثناء صاروخين أو ثلاثة على نحو رمزي أطلقت من الجولان لرفع العتب، فإنه على غير جبهة الجنوب اللبناني التي فتحها "حزب الله" الى حدّ كبير نسبياً، فإن النظام لم يتح فتح الجبهة أمام التنظيمات الإيرانية في سوريا أو الفلسطينية ولو بنسبة عشرة في المئة. وهذا يقود الى أن وحدة الساحات تُختصر بلبنان فحسب بينما لا فاعلية تُذكر لا لمسيّرات الحشد العراقي في اتجاه القواعد الأميركية ولا لصواريخ الحوثيين في اتجاه إسرائيل.

يقول ديبلوماسيون مخضرمون إن إيران لا تضغط على بشار الأسد في هذا الإطار بل تتلاقى معه ولا سيما أن لها مواقع في سوريا تعرّضت وتتعرّض لقصف إسرائيلي من دون أي رد فعل في اتجاه إسرائيل، لا سوري ولا إيراني. فسوريا ليست في موقع أن تكون ورقة للتفاوض على عكس لبنان من أجل تكريسه كلياً لإيران ونفوذها عبر تثبيت سيطرة الحزب عليه باتفاق أميركي إيراني وفقاً لاتجاهات ما يحصل في غزة. ويعتقد هؤلاء أن النظام السوري يتموضع من أجل المستقبل فيما الوضع الكارثي الذي تعيشه سوريا يحجب غيابها ولو أنه غير مبرّر وقد عاشت طويلاً على شعارات أنها قلب العروبة وهي قلعة الصمود والتصدّي.

ومن البديهي السؤال في ظل شعار وحدة الساحات: لماذا لا تفتح إيران جبهة الجولان على طريقة ما يحصل في جنوب لبنان في الوقت الذي بات فيه الأمر مختلفاً في سوريا عن السابق باعتبار أن الأسد مدين لإيران باستمراره في موقعه. والجواب في رأي الديبلوماسيين أنفسهم يكمن في أن إيران لا تودّ، إذا فتحت جبهة الجولان أو دفعت في هذا الاتجاه، أن تتلقى ضربات مباشرة قد تجعلها تخسر أهم موقع لها على المتوسط في لبنان فيما هي تلعب أوراقها على قاعدة التهدئة في سوريا وتوجيه رسالة الى الولايات المتحدة في شكل أساسي لتكريسها الطرف الأساسي في المشرق وتذهب بعد ذلك للتفاوض كما تفاوض في كل الأمور.

والشق الآخر من الجواب عن السؤال يكمن في أن بشار الأسد ضعيف ولا يستطيع أن يقف في وجه إيران ولا في وجه إسرائيل علماً بأن سوريا هي الحلقة الأهم في محور الممانعة وتفعيل ما يُسمّى "وحدة الساحات" فيما هي طرف يغيب كلياً وهو يستفيد من ذلك من أجل أن يوجّه رسالة الى الولايات المتحدة والغرب كما الى الدول العربية كذلك بأنه لم يدخل في إطار الحرب الجارية من أجل توظيف ذلك لمصلحته في المدى المنظور.

فأي من الموقفين، أي الانخراط في الحرب أو الامتناع عن ذلك، له ثمنه، إذ مع بداية فترة رئاسة جورج بوش الأب كانت العلاقات متوترة بين سوريا والولايات المتحدة التي كانت تشتبه في تورّط سوريا في نشاطات إرهابية مختلفة خلال الثمانينيات بما في ذلك قصف طائرة الخطوط الجوية الأميركية "بان ام" الرحلة 103 عام 1988 وتفجيرات السفارة الأميركية وثكنات المارينز عام 1983 في بيروت. كما كانت سوريا ضمن قائمة وزارة الخارجية للدول التي ترعى الإرهاب. ولكن لاحقاً التقى بوش بالأسد الأب كما التقاه وزير الخارجية جيمس بايكر وحصل منه على استعداد سوريا للدخول في عمليات هجومية ضد العراق وهو تغيير في السياسة من موقفها السابق نالت على أثره ثمناً بوضع يدها على لبنان بموافقة أميركية.

يزيد من الخوف أن يكون لبنان على طاولة التفاوض وأن يدفع ثمناً باهظاً واقع الشلل الذي يعانيه البلد نتيجة لامسؤولية المسؤولين والقائمين عليه والذين وفي نظر الخارج لا يتمتعون بالأهلية ولا بالكفاية لإدارة البلد من دون الدخول في تفاصيل الاتهامات التي يتقاذفها المسؤولون بالعرقلة. فيما البلد في حال انهيار مالي منذ أربع سنوات ولا من تقدّم في أي من الملفات المطلوبة لانتشال البلد من القعر. ويُخشى أن يكون استنتاج أن البلد ليس أهلاً لأن يحكم نفسه بنفسه عاملاً مؤثراً ولو أن ذلك لا يندرج في إطار الصفقات الكبرى ولكن قد يكون من الأسباب التبريرية لذلك لاحقاً.