كيف تملك إسرائيل هذا الكمّ من الجواسيس في إيران؟

لم تنفع التحذيرات المسبقة. إيران مخترقَة إلى حد كبير. وليس بدون أنواع مختلفة من الأدلة. حين حذر الوزير الأسبق للاستخبارات والأمن القومي في إيران علي يونسي، سنة 2021، من إمكانية تنفيذ الإسرائيليين اغتيالات داخل إيران حتى ضد كبار المسؤولين، لم يستند فقط إلى اغتيالات قريبة زمنياً ليدلي بتصريحه.

قبل عام واحد، اغتال الإسرائيليون كبير العلماء النوويين في إيران محسن فخري زاده بعملية استخبارية نوعية، أواخر تشرين الثاني (نوفمبر) 2020. قبل ذلك بعامين، استولت الاستخبارات الإسرائيلية على الأرشيف النووي لإيران والذي تحدث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بطريقة استعراضية على الإعلام.

 الأهم بالنسبة إلى يونسي، هو أن المسؤولين عن الأمن الشخصي ضمن الفرق الإيرانية الرسمية يهربون من البلاد ويقدمون معلوماتهم إلى الغرب. من هذه الفرق المسؤولة عن حماية الشخصيات البارزة ومن ضمنها المرشد الأعلى علي خامنئي، "فيلق أنصار المهدي" و"فيلق حماية ولي الأمر". وكان "فيلق أنصار المهدي" مكلفاً حماية هنية، الأمر الذي أكد هواجس يونسي السابقة.

وفي سنة 2022، شهد الحرس الثوري حملة إقالات بعد تغيير رئيس جهازه الاستخباري حسين طائب بسبب فشله في حماية المنشآت التابعة لبرامج إيران النووية واعتقال خلايا تابعة للحرس الثوري في تركيا. اللافت في معظم هذه الاختراقات تطلبُها عنصراً بشرياً كبيراً على الأرض. يمكن البدء بالحدث الأقرب زمنياً وهو اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية فجر الأربعاء.

لحظة بلحظة

لا تتوفر معطيات كثيرة عن طريقة الاغتيال وثمة تضارب في المعلومات حولها مثل ما إذا كان الهجوم قد انطلق من داخل أو خارج الأراضي الإيرانية. بانتظار تبلور مزيد من المعطيات في المرحلة المقبلة، ثمة ما هو جلي: لم يكن الإسرائيليون يعلمون المبنى الذي يسكنه هنية وحسب، بل الطابق وعلى الأرجح الغرفة التي كان موجوداً فيها لحظة الاغتيال. قال نائب رئيس المكتب السياسي في "حماس" خليل الحية إن الصاروخ أصاب هنية إصابة مباشرة.

طهران مدينة كبيرة تفوق مساحتها 600 كيلومتر مربع وتحتضن نحو 10 ملايين نسمة. بالتالي، كان الإسرائيليون بحاجة إلى فريق واسع على الأرض يراقب لحظة انطلاق الموكب بعد نهاية حفل تنصيب الرئيس مسعود بزشكيان والطرقات التي سلكها – مع ما يفرضه ذلك من انتشار للعملاء على أوسع نطاق ممكن – وصولاً إلى المبنى الذي أقام فيه. ومن المنطقي أيضاً افتراض وجود أكثر من شخص يراقب المبنى.

يصح ذلك بشكل خاص إذا كان صحيحاً أن هنية، على ما نقله موقع "أمواج" عن مصادره، لم يكن ينوي قضاء ليلته في طهران لأنه كان على يقين بأنه ملاحق في إيران وفي تركيا، لكن استهداف تل أبيب للرجل الثاني في حزب الله فؤاد شكر دفعه إلى تغيير جدول أعماله. يبدو أن المراقبين على الأرض كانوا (أو أصبحوا) على دراية بخططه الأصلية واللاحقة. ولا توحي المشاهد من حوادث سابقة أيضاً بأن الفرق التي نفذت مهام كهذه كانت محدودة على الصعيد البشري.

ببساطة... "اختفى"

تطلب اغتيال فخري زاده إدخال سلاح أوتوماتيكي يعمل بواسطة الذكاء الاصطناعي وزنه نحو طن. تفيد تقارير أن فريقاً من عشرين شخصاً وأكثر عمل على تنفيذ المهمة فأدخل السلاح "قطعة بقطعة" إلى إيران. وقال مصدر أمني إيراني يقيم خارج البلاد لمجلة "أتلانتيك" إن اغتيال هنية قد يكون شبيهاً باغتيال فخري زاده على مستوى استخدام أجهزة تعقب متطورة. وقد يكون هناك أمثلة على اختراقات تطلبت فريق عمل أوسع من ذلك.

في سنة 2022، برزت وفاة عالمين إيرانيين بسبب تسميم مرجح: أيوب انتظاري وهو مهندس طيران، وقمران أغا مولائي، خبير جيولوجيا. ذكرت "نيويورك تايمز" سابقاً أن أغا مولائي كان عائداً إلى العاصمة الإيرانية من رحل عمل في مدينة تبريز شمال غرب البلاد (نحو 600 كيلومتر غرب العاصمة) قبل أن يتعرض لحالة غثيان وإسهال أودت بحياته بعد أيام. بينما تلقى انتظاري دعوة إلى حفل عشاء في مدينة يزد (أيضاً على بعد نحو 600 كيلومتر جنوب شرق طهران) ثم طور أعراض تسمم فارق على إثرها الحياة.

قالت الصحيفة إن صاحب الدعوة إلى حفلة العشاء "اختفى". كان العالمان شابين ورياضيين قبل أن يفارقا الحياة بفارق أيام قليلة. من هنا، يصبحُ افتراضُ أن الخلايا التابعة لإسرائيل واسعة الانتشار على الأراضي الإيرانية وتعمل بأريحية افتراضاً معقولاً. حفلة العشاء التي دعي إليها انتظاري نسّقها على الأرجح عدد لا بأس به من الأشخاص. يحتم ذلك أن يكون جزء واسع من تلك الخلايا على دراية بالبيئة المحلية، وبالتالي يحمل الجنسية الإيرانية.

طهران... أيضاً وأيضاً

خلال الأسابيع الثلاثة التي سبقت إقالة طائب، توفي سبعة علماء إيرانيين مرتبطين بالبرامج النووية والعسكرية لإيران في ظل ظروف مريبة (انتظاري ومولائي من ضمنهم). أظهر ذلك الحدة التي يمكن أن تعمل عبرها خلايا إسرائيل في مهامها. لعل أبرز مسؤول وقع ضحية للاستهدافات في ذلك الوقت كان العقيد في الحرس الثوري حسن صياد خدايي الذي أشرف على وحدة مهمتها شن هجمات سرية ضد أهداف إسرائيلية.

اغتيل خدايي على يد قاتلَين يستقلان دراجة نارية أمام منزله الواقع في طهران. بالتالي، لم يكن الاختراق الأمني الأخير الذي أودى بحياة هنية هو الأول من نوعه في العاصمة الإيرانية، وهي المعقل الأساسي لأجهزة النظام. لكنه كان أكبر. في نهاية المطاف، وعلى عكس الضيوف، لا بد للقادة الإيرانيين أن يخرجوا ويعودوا إلى منازلهم، مما يحتم أن تكون الأخطار المحيطة بهم أعلى. وكانت الاستخبارات الأميركية قد اغتالت حمزة بن لادن، نجل مؤسسة تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن، في طهران أيضاً سنة 2019.

تفسيرٌ محتمل لكل ذلك

بالعودة إلى السؤال الأساسي عن حجم الاختراق الأمني الذي تعاني منه إيران والذي يفترض وجود عناصر إيرانية تعمل لمصلحة الإسرائيليين، قد تملك الجوابَ على ذلك الزميلة الباحثة في قسم علم الجريمة والدراسات الأمنية التابع لجامعة ماكاري الأسترالية كايلي مور-غيلبرت.

في مقال نشرته مجلة "فورين بوليسي" الأربعاء، أشارت مور-غيلبرت إلى أن قمع الشعب الإيراني قد يدفع الأخير إلى الانخراط في أعمال معادية كهذه: "إن اغتيال هنية يبعث برسالة مثيرة للقشعريرة إلى أولئك في النظام الإيراني، ليس فقط حول مهارة وقدرة الإمكانات الاستخبارية لإسرائيل على الاختراق، لكن أيضاً حول مدى استعداد العديد من مواطنيه للمخاطرة بالسجن والتعذيب وحتى الإعدام لمساعدة أعداء بلادهم".

لا تستبعد الباحثة أن يكون اختيار بزشكيان رئيساً لإيران، ضمن مسعى إحياء الجناح الإصلاحي في البلاد، اعترافاً من المرشد بأن القمع القاسي في الأعوام الأخيرة ارتد سلباً على الأمن القومي الإيراني. مع ذلك، يمكن استخلاص سؤال آخر من هذه الفرضية:

هل جاء هذا "الاعتراف" متأخراً؟