كيف نستقوي بالخارج ونوقعه في الأوحال اللبنانية؟

تطرح التجربة اللبنانية، منذ أكثر من 5 عقود، سؤالاً أساسياً حول حدود قدرة أي طرف محلي على الاستقواء بحليف خارجي واستدراجه إلى ساحة داخلية شديدة التعقيد، وحول الثمن الذي يدفعه اللبنانيّون، كما القوى الإقليمية والدولية، عندما يتحوّل لبنان من دولةٍ ذات سيادة إلى ساحة لصراعات بالوكالة. إنّها دوّامة يُعاد إنتاجها باستمرار، وتكشف معادلة خطيرة: كل محاولة للإستقواء بالخارج تنتهي بإيقاع هذا الخارج في الوحول اللبنانية، وقد تستدرج أطرافاً خارجية إضافية عبر فئات محلية أخرى، ما يضاعف الخسائر على الجميع. وقد لخّص المبعوث الأميركي آموس هوكشتاين هذه الحقيقة بقوله: «أي زعزعة لاستقرار لبنان لن تبقى في لبنان فقط» (3/12/2025).

كلفة الإنخراط في المستنقع اللبناني

شهد لبنان خلال الحروب ما بين 1975 و1990 وما تلاها، تورّط قوى متعدّدة في صراعاته، وكلّها خرجت مثقلة بالكلفة. فقد جُنّدت منظمات فلسطينية في نزاع دموي داخلي، كلّفها أرواحاً وألحق أضراراً بشرعية عملها المقاوم، وجرّ عليها تراجعات استراتيجية (منذ 1975). ثم دخلت سوريا لوقف ما سُمّي بـ»حرب السنتَين» (1975–1976)، قبل أن يتصاعد الصراع وصولاً إلى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وهو الاجتياح الذي بلغ مشارف طريق بيروت-دمشق، وتمكّن من احتلال العاصمة، في سابقة على مستوى العواصم العربية.

واستُدرِجت القوى الدولية إلى لبنان عبر القوّة المتعدّدة الجنسيات، التي جاءت لضمان انسحاب الجيش الإسرائيلي من بيروت وجلاء منظمة التحرير عبر مرفأ بيروت بإشراف الجيش اللبناني. دفع الأميركيّون ثمناً باهظاً مع تفجير مقرّ «المارينز» سنة (1983) بسقوط 276 قتيلاً و351 جريحاً، ودفعت فرنسا ثمناً موازياً بسقوط 64 جندياً في اليوم نفسه. كما تعرّض سفراء وديبلوماسيون للإغتيال أو الخطف: سفراء الولايات المتحدة (فرنسيس ميلوي 16/6/1976 Francis E. Meloy) وفرنسا لوي دولمار (14/9/1981 Louis Delamare) والعراق (عبد الستار الهاشمي 15/12/1981) وإسبانيا (بيدرو مانويل دي أرستغوي 16/4/1989 Pedro Manuel de Aristegui) وتعرّض ديبلوماسيون آخرون للخطف أو التصفية، فاغتيل قنصل النمسا (جيرهارد لواتزنبوير Gerhard Loitzenbauer) واختُطِف 3 ديبلوماسيِّين سوفيات في بيروت، واختفى 4 إيرانيِّين. وقد عزّز هذا المشهد صورة لبنان كساحة مفتوحة لكل أشكال العنف والخطف والإرهاب والتهريب والمخدّرات، بدّل صورته القديمة بوصفه «سويسرا الشرق».

أمّا إسرائيل، فبرهنت التجربة أنّها لم تكن «مكنسة» بيَد أي فريق لبناني، بل طرفاً يسعى إلى مصالحه الخاصة. استمرّ احتلالها للشريط الجنوبي بين 1982 و2000، وعلى مرأى منه شهد الداخل «حرب الجبل» وتهجير القرى المسيحية. وكان الرئيس المنتخب الشيخ بشير الجميل إغتيل بسبب رفضه توقيع إتفاقية سلام.

وبعد استشهاده، وقعت انتفاضات داخل القوى المسيحية نفسها، التي انزلقت أحياناً إلى قتال مع الجيش اللبناني. وبقِيَت «الصدمة اللبنانية» ماثلة في الذاكرة الإسرائيلية بوصفها إحدى أكثر المغامرات العسكرية كلفةً وتعقيداً.

وقد وثقت مؤسساتها العسكرية والسياسية «كلفة المستنقع اللبناني» في ترسانة من المجلدات حول الخسائر التي مُنِيت بها. أمّا حليفها «الجيش الجنوبي» (ضمّ لبنانيِّين جنوبيِّين أرغموا على التعاون)، فدفع كلفة باهظة في الأرواح وتهجير عائلات عناصره، فضلاً عن خسائر لا تحصى.

بدورها، دفعت سوريا كلفة عالية خلال انخراطها الطويل في لبنان. فقد ارتدّت عليها ديناميات النزاع اللبناني لاحقاً بعد 2011، وأصيب حلفاؤها اللبنانيّون بسلسلة انهيارات: تفكُّك الحركة الوطنية، الصدام السوري-الفلسطيني، حرب «أمل»-الاشتراكي ،»أمل»-الفلسطينيين، ثم «أمل»-»حزب الله» (1988–1989). كما تكبّد الحلفاء المسيحيّون خسائر فادحة في حروبهم، وكانت معركة الصفرا (1980) مثالاً دامغاً على كلفة «توحيد البندقية». أمّا الأرمن، فحافظوا على حياد صارم تجنّباً لتهجير متكرّر، وهو درس راسخ في ذاكرتهم الجماعية.

استياء دولي وتراجع الاستعداد للتدخّل

تراكمت لدى الديبلوماسية الدولية، عبر التجربة، قناعة راسخة بأنّ التدخّل في لبنان بالغ الكلفة، وأنّ هذا البلد الصغير يُشكّل خطراً على محيطه العربي وعلى أوروبا والأميركيّتَين. فقد ذهبت معظم الجهود الدولية لإنقاذه سدىً، إمّا بسبب الارتهانات الخارجية، أو الدوران في دوامة المزايدات السياسية الداخلية، أو غياب الإرادة بإصلاح فعلي. ومع اتساع هذا الشعور، تبنّت العواصم المؤثرة معادلة جديدة: على اللبنانيِّين أن «يتدبّروا أمرهم بأنفسهم». فلا «باب عالي» جديداً، ولا استعداداً دولياً للإنغماس مجدّداً في ما يشبه «الرمال المتحرّكة» اللبنانية. والعالم مصاب بحالة قرف من الوضع اللبناني وسلوك طبقة من السياسيِّين.

لقد أظهرت الحرب أنّ لبنان كان ساحةً مركّبة من نزاعات متقاطعة: لبنانية-لبنانية، فلسطينية-لبنانية، فلسطينية-فلسطينية، سورية-فلسطينية، إسرائيلية-فلسطينية، سورية-إسرائيلية، عراقية–سورية، إيرانية-إسرائيلية، وأميركية-سوفياتية-روسية. ومن خلال هذا التشابك، تحوّل لبنان إلى «عقدة إقليمية» تتغذّى من صراعات المنطقة، فيما يتحوّل كل تدخّل خارجي إلى عامل انقسام داخلي جديد.

أولوية استعادة الدولة وإقفال لبنان-الساحة

يبرز من هذا التاريخ درس أساسي: سيادة الدولة ليست شعاراً سياسياً، بل احتكار القوّة الشرعية، إدارة العلاقات الديبلوماسية، جباية الضرائب، وتنظيم السياسات العامة. وقد شدّد مجلس الأمن مراراً على ضرورة إنهاء ظاهرة «لبنان الساحة» واستعادة وظائف الدولة. لكنّ سوء تقدير الخطر الخارجي لا يزال مستمراً في الداخل، حيث يراهن بعض السياسيِّين على تدخّلات الأشقاء والجيران وأبناء العم، متناسين أنّ هؤلاء شكّلوا، عبر العقود، مصادر للمخاطر أكثر من كونهم مصادر للحلول. يُنقل عن ديبلوماسي هولندي قوله أثناء توقيع معاهدة أوتريخت (Traité d’Utrecht 1713) لوقف حروب خلافة إسبانيا التي تسبَّبت بنزاعات أوروبية على نطاق واسع: «سنوقّع السلام لكم، عنكم، ومن دونكم».

نجح لبنان، نسبياً، خلال خمسينات وستينات القرن الماضي، في انتهاج حياد فعلي، مكّنه من أن يكون وسيطاً إقليمياً ومركزاً اقتصادياً وثقافياً وسياحياً عربياً مزدهراً. لكنّ الخروج عن هذا الخيار بعد اتفاق القاهرة (1969)، ثم بعد 2006، دفع بالبلاد إلى محاور متصارعة وأضعف صداقاته العربية، وفتح الباب أمام المزيد من الإرتهان الخارجي. وعلى رغم من إدراك القوى الخارجية، بعد 1990، أنّ الاستثمار في العنف اللبناني غير مربح، والقرار الدولي بإغلاق الساحة، فإنّ النُخَب السياسية اللبنانية لم تستفِد من الدروس لاستعادة الدولة وتكريس حُكم رشيد واستكمال تطبيق الطائف وإعادة ترميم النسيج الوطني.

تؤكّد التجربة اللبنانية، اليوم أكثر من أي وقت مضى، أنّ كل استقواء بالخارج ينتهي بانكشاف داخلي، وأنّ كل تدخّل خارجي يتحوّل إلى كلفة كارثية عليه وعلى لبنان معاً، وأنّ تجاهل الحياد يقود البلاد إلى مزيد من الإنهيار. الطريق الوحيد إلى المناعة الوطنية يبدأ بقرار واضح: إقفال لبنان-الساحة، وإحياء لبنان-الدولة. ومَن ينتقد اليوم خطوة لبنان الشجاعة بالتوجّه نحو المفاوضات، ليتذكّر بعض ما ورد من عِبَر تاريخية في هذه القراءة.