لا إصلاح دون نزع السّلاح

شاهدت مقابلة رئيس الوزراء نوّاف سلام على قناة العربيّة” التي أجرتها معه الزميلة رشا نبيل. لم أُفاجأ بأن يكون سؤالها الأوّل عن نزع سلاح “الحزب”، خاصّة بعد كلام نائب رئيس الحكومة طارق متري والوزيرة تمارا الزين. ما لفتني جواب سلام الذي تكلّم عن طريق، وقال إنّ الكلّ (وقصد الوزراء) يسير فيه، لكن بسرعات مختلفة! وأضاف، مدافعاً بطريقة ما عن نائبه والوزيرة الزين، أنّ الوزراء ليسوا “مستنسَخين”.

لم يكن رئيس الحكومة عادلاً في تشبيهه ولا في تعبيره، وهو المحامي والقاضي. فالحكومة جسم واحد. وهذه الحكومة تحديداً لا تشبه أو من المفترض ألّا تشبه أيّ حكومة سابقة في لبنان، خاصّة في السنوات الأخيرة. ليس لكونها حكومة تكنوقراط، إنّما لأنّها حكومة إصلاح بمعناه الشامل، وتحظى بدعم عربيّ ودوليّ استثنائيّ.

هي حكومة إصلاح للاقتصاد اللبنانيّ بعد الانهيار الذي أوصلته إليه سياسات الحكومات السابقة. وهي حكومة محاربة الفساد “المعشعش” في الدولة اللبنانيّة من رأس الهرم حتى آخر موظّف. وهي حكومة إصلاح سياسيّ، وتحديداً لعلاقات لبنان بالمجتمعين العربي والدوليّ، بعد الدمار الذي ألحقه “الحزب” بهذه العلاقات، عبر خياراته السياسيّة وخطابه وحروبه في الخارج وفرض هيمنته على الداخل.

هي حكومة استعادة ثقة اللبنانيين بدولتهم ومؤسّساتها وفي مقدَّمها مجلس الوزراء، ما دام المجلس النيابيّ، دَعنا نقُل، هو تَرِكَة مرحلة ما قبل هذا العهد. ولا يبدو أنّها أحدثت صدمة إيجابيّة في هذا المجال بسبب يأس اللبنانيين من التجارب السابقة. وهي حكومة استعادة الدولة لهَيبَتها بعد الضرر الذي لحق بها على مدى سنوات وسنوات، إن لم نقُل على مدى عقود. وهي مسألة ليست بسيطة. إنّها أساسيّة في الدول والأوطان. والهَيبة تعني التزام المواطن، كلّ مواطن، بالقانون خشية العقاب. ولا تُستعاد هذه الهَيبة على طريقة “اللي سلاحو ظاهر ما بدو تفتيش”، كما جاء في مسرحية “يا عيش يا عيش” للأخوين الرحباني.

دولة بلا شريك

يكفي هذا القدر من المهامّ الملقاة على هذه الحكومة الحاليّة، أو المأمول أن تقوم بها، ليتبيّن إنّ نزع سلاح “الحزب” هو شرط أساسيّ لنجاحها في مهامّها. لماذا؟

  • لا إصلاح سياسيّاً داخليّاً و”الحزب” يحتفظ بسلاحه، واستطراداً قادر على استعماله في أيّ لحظة من اللحظات في حال تبدّلت الظروف السياسيّة. اليوم، وعلى خلاف خطاب النصر والانتصار الذي يُتحفنا به قادة “الحزب” وأبواقه السياسيّة والإعلاميّة، والذي يعجز عن فهمه العقل البشريّ وحتى الذكاء الإلكترونيّ، “الحزب” في موقف تراجعيّ في الداخل أمام النكسة الكبيرة التي مُنيَ بها من الخارج. ولكن ما الذي يمنع أن يقوم، بعد استعادة قواه وإعادة تنظيم صفوفه، بمغامرة 7 أيّار جديدة؟ أو أقلّه من القيام بـ “ليلة قمصان سود” جديدة؟ لسنا من دُعاة تشبيه الأحداث والمراحل، فلكلٍّ منها ظروفها السياسيّة والجيوسياسيّة، لكن من حقّ اللبنانيين طرح السؤال: ألم يشكّل اغتيال رفيق الحريري قبل عشرين عاماً حدثاً وفرصةً للمطالبة بنزع سلاح “الحزب” والإصرار عليه، خاصّة أنّ النظام السوريّ، و”الحزب” حليفه، كان المتّهم الأوّل بالاغتيال قبل أن تصدر المحكمة الدوليّة حكمها على مسؤولين في “الحزب”؟
  • لا إصلاح سياسيّاً مع الخارج في الإقليم والعالم دون نزع سلاح “الحزب”. وهذا من البديهيّات. وباستثناء الموقف الفرنسيّ الذي عمل جاهداً للفصل بين تنظيم “الحزب” العسكريّ وتنظيمه السياسيّ، تشترط كلّ الدول المعنيّة بالملفّ اللبنانيّ لمساعدة لبنان نزع سلاح “الحزب” وتفكيك تنظيمه العسكريّ والأمنيّ والماليّ، وفي مقدَّم هذه الدول الولايات المتّحدة الأميركيّة والمملكة العربيّة السعوديّة. والدولتان تطالبان بنزع سلاح “الحزب” وأن يكون لبنان “دولة طبيعيّة”، أي دولة تحتكر مؤسّساتها العسكريّة والأمنيّة حصريّة اقتناء السلاح واستعماله، فلا شريك لها فيه، ودولة تتّخذ مؤسّساتها السياسيّة قرار الحرب والسلم وليس تنظيم مسلّح فيها.
  • لا إصلاح اقتصاديّاً وقضائيّاً دون نزع سلاح “الحزب”. وهنا لا يتحمّل “الحزب” وحده مسؤوليّة الانهيار الاقتصاديّ والفساد السياسيّ والقضائيّ. إنّما هو من ساهم بشكل كبير في حمايته في السنوات الأخيرة. فعندما انطلقت “انتفاضة 17 تشرين” قام عناصره (وليسوا مناصرين له وحسب) بقمعها بقوّة السلاح (ولو لم يستعملوه بشكل مباشر). صورهم بالقمصان السود يضربون ضبّاط قوى الأمن الداخليّ وعناصرها خير شاهد وخير دليل. وهم من جاؤوا أرتالاً على درّاجاتهم الناريّة حاملين قنابل المولوتوف وألقوها على خيم المعتصمين وأحرقوها.

وحدة الموقف الحكوميّ

بالعودة إلى مقابلة نوّاف سلام على قناة “العربيّة”، وفي إجابته عن طريقة نزع سلاح “الحزب”، قال إنّ “القوّة لها مفاهيم عديدة، فالدبلوماسيّة قوّة، والسياسة قوّة، وحتى الطاقة العسكريّة هي قوّة، لكن ليس بإطلاق النار”، ونوافقه الرأي لأنّ استعمال القوّة العسكريّة لنزع سلاح “الحزب” يهدّد بإدخال البلاد في حرب داخليّة ستتحوّل سريعاً إلى حرب أهليّة. ولكنّ المطلوب من حكومة نوّاف سلام استعمال عناصر القوّة التي حدّدها والتي تُختصر بعبارة: وحدة الموقف الحكومي وثباته.

يجب ألّا يستكين “الحزب” إلى سلاحه متذرّعاً بالاعتداءات الإسرائيليّة وبعدم انسحاب إسرائيل من خمس نقاط، كما قالت الوزيرة تمارا الزين. تكرار مثل هذا التصريح أو مثل كلام الوزير طارق متري يمكن أن يستغلّه “الحزب” للالتفاف على الموقف الحكوميّ. فـ”الحزب” لا يزال يحتفظ بقسم كبير من طاقته العسكريّة، لكن ليس بوجه إسرائيل بل بوجه اللبنانيين. وأخشى ما نخشاه أن يقوم بالتهويل بهذه “الطاقة العسكريّة” في مناطق نفوذه في الاستحقاقات الانتخابيّة، وأوّلها الانتخابات البلديّة، التي حدّدت الحكومة موعدها في أيّار المقبل، والتي ستليها بعد سنة انتخابات نيابيّة. حينئذٍ تكون الدولة اللبنانيّة قد فوّتت فرصة الدعمين الخارجيّ والداخليّ الكبيرين لتكون دولة.