لا مقوّمات صمود لدخول الحرب... ولا مجال للمقارنة مع "حرب تموز"

ماذا لو توسّعت حرب غزة؟ ماذا لو تحوّلت المناوشات اليومية على الحدود الجنوبية اللبنانية من عمليات محدودة ومنضبطة تحت سقف التفاهمات الدولية السابقة، وقواعد الاشتباك المعمول بها منذ عام 2006، إلى حرب تتخطى الجغرافيا الجنوبية نحو جميع المناطق اللبنانية بما يشبه التدمير الممنهج الذي قامت به إسرائيل يومها لقسم كبير من البنى التحتية والمناطق السكنية.

عام 2006 دخل لبنان الحرب بمعدل نموّ يفوق الـ5%، واحتياط جيد من العملات الأجنبية سمحت لمصرف لبنان بأن يتدخل بـ700 مليون دولار في الأسبوع الأول من الحرب، لحماية الليرة وإبقائها عند سقف صرف الـ1507.

يومذاك، كانت الظروف السياسية بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري عام 2005، وما رافقها من تداعيات سياسية وأمنية وخروج الجيش السوري من لبنان كلياً، قد آلت إلى تفاهمات وطنية كبرى، أدت إلى انعقاد طاولة حوار بين جميع قادة الصف الأول في البلاد، وإرساء أجواء من الهدوء الأمني والسلام النفسي، أدّيا إلى انتعاش اقتصادي شامل وعام، استطاع اللبنانيون عبره امتصاص صدمة وأحداث 2005 وتداعياتهما.

لا يشبه اليوم الأمس بالمطلق، ولا تجوز المقارنة بالمعطيات. فحجم الدمار والخراب الذي حلّ في حرب تموز، إذا ما تكرر لا سمح الله اليوم، لا قدرة للبنان على تحمّله، ولا إمكانيات فردية أو وطنية لمواجهته. فالبلاد مشرذمة سياسياً واجتماعياً، والشغور في مواقع القرار الحساسة يتمدّد، وقطاعاتها الاقتصادية تحتضر واحداً تلو الآخر، كما أن مصارفها خارج الخدمة نسبياً وتعاني إلحاح المودعين المحقين الذين خسروا جنى أعمارهم من جهة، وإنكار الدولة لحقوقها وحقوقهم من جهة أخرى، فيما هبطت الطبقة الوسطى إلى مربع الفقر، والعملة الوطنية خسرت 95% من قيمتها.

فكيف لبلاد في هذه الحالة أن تواجه دمار بنيتها التحتية، وخسارة ما بقي لها من معامل كهرباء، ومصالح مياه، وطرقات وجسور ومرافئ ومطار، ومجمعات سكنية، وعدم إمكانية الاستيراد، وتوقف الجباية والواردات، بالإضافة إلى العزلة العربية والدولية، والضغوط السياسية والأمنية والعسكرية، وتجدّد مواسم الهجرات الشبابية الجماعية؟

وفي مفارقة مؤسفة، دخل لبنان حرب الـ2006 وخرج منها باحتياطات أجنبية تبلغ 13 مليار دولار فقط، وبقيت ليرته صامدة واستقراره النقدي ثابتاً بفعل عاملين: حسن إدارة الملف النقدي وصحة المصارف من جهة، والاحتضان العربي والدولي من جهة أخرى، فيما اليوم يفتقد لبنان العاملين معاً.

يجمع اللبنانيون على أن لبنان دفع ما يكفيه من أثمان الحروب الإقليمية، وما عاد لديه الطاقة على تحمل المزيد، ودولته وماليته العامة تعيش كل "شهر بشهره" على ترتيبات يقوم بها مصرف لبنان مع وزارة المال، لاستمرار عمل مرافق الدولة بالحد الأدنى، وتسديد الرواتب والأجور. أما الدخول في أتون الحرب الشاملة، فدونه دمار لا يمكن التكهن أو "التبصير" في من، أو كيف سيعاد ترميمه؟ ومن أين سيأتي التمويل؟ ومن هم المانحون المفترضون، في ظل التأزم السياسي مع الدول العربية والمجتمع الغربي، وفي ظل أولويات لدى الدول والمؤسسات الأممية المانحة، تبدأ من أوكرانيا ولا تنتهي في غزة أو إسرائيل وربما في مصر أيضاً.

الخسارة على لبنان وقعت، والمرافق الاقتصادية بدأت تشعر بثقل الأزمة، وها هي المعلومات الأولية عن فقدان الموسم السياحي في عيدي الميلاد ورأس السنة، والسياحة الشتوية قد بدأت، وأن استثمارات عدة قد تتوقف عن الاستمرار.

 

بين 2006 و2023؟

قدّر تقرير لمجلس الإنماء والإعمار التقديرات الأولية غير النهائية للكلفة المباشرة لإعادة التأهيل الأولية للأضرار والخسائر المادية المباشرة التي لحقت بلبنان جراء العدوان الإسرائيلي 2006، بنحو 2.8 مليار دولار، فيما قدّر أن تكون الكلفة غير المباشرة للأضرار في مختلف القطاعات الاقتصادية أكثر من ذلك بكثير، أما بالنسبة للآثار السلبية المحققة في المالية العامة، فإنها تُقدّر بنحو 1.6 مليار دولار حتى نهاية عام 2006. فماذا عن تقديرات الحرب المقبلة إذا ما وقعت لا سمح الله؟

وفق الباحث في الدولية للمعلومات محمد شمس الدين "لا يمكن تقدير أضرار الحرب، خصوصاً أنه لا يمكن توقع الفترة التي يمكن أن تستغرقها أو الرقعة والأهداف التي قد تستهدفها. ولكن في كل الأحوال، استمرت الحرب ساعة أو شهراً فنحن أصلاً في انهيار تام، ولكن الخوف أن يقفز سعر صرف الدولار الى مستويات مرتفعة، عدا عن الخوف الذي قد يسيطر على المواطنين فيهرعون الى تموين السلع الغذائية والمحروقات، بما قد يشكل خطراً على فقدان المواد الاستهلاكية، وهو الأمر الذي قد يتفاقم إذا ما فُرض حصار بحري كما حصل في عام 2006".

وإن كان لا يمكن تقدير الخسائر المالية أو الاقتصادية التي قد تنتج عن أي عدوان جديد على لبنان، فإن شمس الدين يشير الى "أن الخسائر الفعلية لحرب تموز 2006 قُدّرت بنحو مليار و200 ألف دولار، فيما المبالغ التي دُفعت أكثر من 7 مليارات دولار"، لافتاً الى أن "الأوضاع تغيّرت، فالناس لم يعودوا قادرين على تحمّل أي أضرار، وتالياً ليس هناك أيّ من مقوّمات الصمود".

الى ذلك، أكدت مصادر اقتصادية لـ"النهار" أن لبنان "لا يمكنه تحمّل تداعيات أي حرب جديدة، فالشعب اللبناني في عمق الانهيار، فكيف له أن يواجه حرباً قد لا تُحمد عقباها".

وتشير الى "أن الظروف الدولية والعربية تغيّرت، ففي الحروب السابقة كان ثمة تعاطف عربي مع لبنان، ولكن هذا الواقع تغيّر على خلفية الكثير من المستجدات منها عمليات التطبيع مع إسرائيل، كما أن العرب لن يبادروا الى مساعدة لبنان مالياً وهم مدركون للواقع السياسي في لبنان، وتالياً فإنهم لن يدفعوا الأموال لتعويم المحور الإيراني. الى ذلك، فإن الاتحاد الأوروبي وتحديداً فرنسا التي كانت تبادر الى تقديم الدعم للبنان لن تكون قادرة على ذلك في ظل الانكماش الاقتصادي التي تعيشه أوروبا إضافة الى تركيز الدعم لأوكرانيا. أما التعويل على روسيا والصين، فإنه كذلك غير مجدٍ لأن تركيزهما المالي ينصبّ على سوريا".

 

مقوّمات الصمود المعيشية؟

السيناريو الأسوأ المنتظر للحرب الجارية في غزة هو اتساعها لتشمل لبنان، وهذا يتطلب الإجابة عن إشكالية كبيرة في هذا الإطار، وهي: هل يملك لبنان مقوّمات للصمود ضد عدوان وقصف وتدمير وتهجير شبيه بمثيله خلال عدوان تمّوز 2006؟ الإجابة عن السؤال ليست بالأمر السهل، وفق ما يقول الكاتب والباحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية الدكتور أيمن عمر، فالظروف السياسية والاقتصادية والمالية للبلد تختلف حالياً عن تلك التي في عام 2006.

يحدّد عمر مقوّمات الصمود بعناصر عدة، "أولها المستشفيات، والمواد والسلع الغذائية الرئيسية، الكهرباء والمياه، والأهم استنفار مؤسسات الدولة بكل مكوّناتها وإعداد خطة طوارئ".

وفي تفصيله لوضع هذه المقومات، يشير عمر الى أن المستشفيات المجهزة باللوازم الاستشفائية والجراحية والأدوية ومتطلبات الطوارئ من تضميد للجروح وإجراء عمليات بسيطة أو صعبة سريعة لمداواة المصابين، بالإضافة إلى عدد الأسرّة الكافي لاستيعاب المصابين، غير متوافرة. هذا الواقع يظهر من خلال مؤشرات عدة منها: الشغور في الكوادر البشرية اللازمة للمستشفيات، إذ تقدر نسبة الشغور بنحو 55.8% من احتياجات المستشفيات للكوادر البشرية. فهجرة الكادر الطبي والصحي كان لها الدور الأساسي في ذلك، إضافة الى النقص في المعدات والتجهيزات الطبية، وارتفاع كلفة الفاتورة الطبية بسبب التدهور في سعر الصرف، وعدم قدرة الدولة على دعم هذا القطاع بسبب غياب قدرتها التمويلية من الدولارات حتى من حقوق السحب الخاصة الباقية المقدرة بـ76 مليون دولار". بالنسبة للمواد والسلع الغذائية الرئيسية وفي مقدمها الخبز والمحروقات اللازمة للنقل وللتدفئة، يرى عمر أن "أزمة الخبز أزمة حقيقية حتى مع عدم وجود حرب، خصوصاً أن القرض الذي منحه البنك الدولي بقيمة 150 مليون دولار شارف على الانتهاء، فيما ستعطل الحرب طرق إمداد المحروقات برمّتها، إلا إذا قامت إحدى الدول الصديقة بتوفير بعض الإمدادات لضمان الصمود والمقاومة". ويتطرق عمر الى موضوع الكهرباء والمياه اللازمة للشفة والنظافة الشخصية، لافتاً الى أن اللبنانيين اعتادوا على التقنين الكهربائي وانقطاع الكهرباء باستمرار، أما المياه فيمكن تأمينها بعدة طرق، خصوصاً أننا أمام أبواب فصل الشتاء والمطر.

في ما يتعلق بالشقق والمباني السكنية في المناطق البعيدة عن القصف لإيواء النازحين، فهو عنصر متوافر برأي عمر "ولا يُخشى منه في ظل وجود مبانٍ حكومية كثيرة كالمدارس والجامعات وغيرها، بالإضافة إلى علاقات القربى والمودة التي تجمع اللبنانيين جميعاً عند الأزمات الكبرى والحروب، خصوصاً إن كان ذلك ناجماً عن الصراع مع العدو الصهيوني".

يبقى الأهم وفق عمر هو "استنفار مؤسسات الدولة بكل مكوناتها وتهيئة المتطلبات اللازمة للعدوان قبل وقوعه، لتزداد قدرتها على تقديم الدعم المطلوب من مواد غذائية وأدوية وفرش وبطانيات وجمع النفايات ونظافة الشوارع والأماكن العامة وغيرها، وهذا المقوّم غير ممكن توافره ولكن يمكن الاستعاضة عنه عبر منظمات المجتمع المدني والتضامن الوطني والأهلي والقرابات العائلية.