المصدر: القبس
الجمعة 24 حزيران 2022 00:11:33
داخل «عرزال» من القصب أقامه وسط أرض زراعية في بلدة الشوير، يعيش الشاب بلال صوايا (32 عاما) منذ نحو عامين. يصادق الطيور والأشجار ويعاين ما زرعته يداه من خضار موسمية.
وحين طلبنا منه أن يروي لـ القبس قصة علاقته بهذه الأرض، دعانا بحماسة وشغف ظاهرين، لأن نتذوق حبة من البندورة والخيار قطفهما للتو ومقارنتها بما نشتريه من السوق.
ملاذ آمن ونافذه على المستقبل
«تنقلت في أشغال كثيرة قبل أن أستقر في هذه الأرض التي أصبحت ملاذي الآمن ونافذتي على المستقبل» يقول صوايا. مضيفاً: «عملت سبع سنوات في الهندسة الداخلية التي احمل شهادتها، وبسبب ظروف البلاد وتعثر العمل اضطررت الى ترك هذا المجال والتنقل في وظائف بعيدة كلياً عن تخصصي، من صناعة الحلويات، إلى موزع في شركة ألبان وأجبان. وحين اندلعت الازمة المالية كنت أعمل لدى أحد المطاعم الشهيرة براتب بالكاد يكفيني للتنقل من ضهور الشوير الى بيروت. وبسبب الانتفاضة الشعبية وما رافقها من تظاهرات وقطع طرقات اضافة الى اجراءات الحجر، طلب منا مدير المطعم أن «ندبر أنفسنا» ونبحث عن عمل آخر».
شهر واحد من دون عمل دمرني صحياً ونفسياً، يقول بلال. من جهة، كنت أرفض الاستسلام والغرق في قاع اليأس، ومن جهة أخرى، لا أملك الامكانيات للهجرة او لتنفيذ مشروع خاص بي.
في هذه الفترة، اتخذت البلدية قرارا بتحفيز الشباب على استصلاح الأراضي الزراعية والاستثمار فيها في ظل الظروف الصعبة التي تواجههم.
«حالفني الحظ بإيجاد قطعة أرض يملكها خالي المقيم في الولايات المتحدة، أرض مهجورة منذ 60 سنة، اقترح عليَّ زراعتها والاستفادة منها ريثما تتبدل ظروف البلد وأحوالها، في اليوم التالي توجهت إلى الأرض وبدأت العمل فيها».
استعان بلال بـ«أصدقاء» من النازحين السوريين في البلدة يملكون باعا طويلا في الزراعة، «ولم تبخل عليَّ والدتي بارشاداتها كونها ابنة مزارع».
مصدر عيش.. وفخر
صحيح ان مشروع الزراعة لم يكن من ضمن خياراتي في البداية لكنه اليوم، وبعد عمل سنتين متواصلتين بلياليها ونهاراتها، تخطيت فيها مشقة البدايات، وقلة الخبرة والتكلفة المادية، أصبح مصدر عيش لي ولأهلي. هذه الغابة المهجورة تحولت بفترة قصيرة نسبيا الى حقل يحوي 70 شجرة فاكهة متنوعة، عنب، كيوي، اجاص، كرز وغيرها، فضلا عن خضار موسمية.
يكفيني فخرا أن يقصدني اشخاص من بيروت ومن الاشرفية، يرغبون بشراء خضار مروية بمياه نظيفة وخالية من المواد الكيماوية، يقولون إنهم سمعوا من اصدقائهم المصطافين في ضهور الشوير، عن جودة الانتاج في ارضي.
قد ابدو أنانيا حين اقول إني أعيش بعيدا عن مشاكل البلاد وهمومها. ولست نادما أبدا، ولو عاد بي الزمن الى الوراء وشهدت نهوض هذا البلد مرة جديدة سأتمسك بأرضي ولن أتخلى عنها ولو قدمت لي عروضا مغرية للعمل.
مشروع صغير توسَّع.. وعودة إلى التراث
داخل منزلها في بلدة عين الريحانة (قضاء كسروان) تستقبل جانيت سلامة (50 سنة) أشخاصاً يقصدونها من البلدة والمناطق المجاورة لشراء الحليب واللبن الطازجين.
في مطبخ صغير يراعي كل معايير النظافة، تصنع جانيت اللبنة والأجبان من الحليب الذي يأتي مساء من مزرعة زوجها الصغيرة.
«عدنا الى التراث» تقول ضاحكة، وهي تروي لـ القبس تجربة غير مألوفة لسيدة في سنها، تعيش في بلدة ساحلية وليس في الجبال والأرياف.
بدأت الفكرة بعدما اضطر زوجي لترك عمله إثر مضايقات وضغوط لم يعد قادرا على تحملها. مكث 6 أشهر في المنزل، أمضاها بين زرع الشتول على سطح المنزل والتنقل من كنبة إلى أخرى.
بعد بحث مضني عن عمل من دون جدوى، خطرت في بالنا فكرة شراء ماعز بهدف صناعة الالبان والاجبان كوني اكتسبت خبرة في هذا المجال خلال عملي لفترات متقطعة مع جمعية «ام النور» في البقاع.
استأجرت جانيت مزرعة صغيرة في بلدة عينطورة المجاورة. واشترت 3 رؤوس من الماعز قبل سنة بالضبط، اصبحت اليوم 40.
تقول «ككل مشروع صغير كان طموحنا ان نؤمن الاكتفاء الذاتي لعائلتي الصغيرة، وجني بعض المال بما يقينا العوز. وتدريجيا بدأت ابيع الفائض لأقاربي وجيراني. ومع نمو المشروع طبعت منشورات ووزعتها في المنطقة فبدأ يقصدني اشخاص من خارج المنطقة، واذا استمر العمل كما هو اليوم أفكر جديا بشراء محل لأن المنزل لم يعد يفي بالغرض».
وحين نسأل زوجها الياس عما اذا كان راضيا عن سير العمل في مشروع العائلة، يأخذ مجة من سيجارته ويقول «لا أسمع اخبار السياسة، لا اسمع شتائم الناس، أمشي مسافات طويلة في المزرعة بين رؤوس الماعز وسواعيرها، أنزلت من وزني 14 كلغ منذ بداية المشروع، وأنا مرتاح».
مشاريع فردية في انتظار مشروع «الخلاص الجماعي»
مع كل استحقاق سياسي، سواء انتخابات نيابية ام تكليف رئيس وزراء او تشكيل حكومة، يتشبث اللبناني بأمل ضئيل بأن ينعكس إيجابا على الأوضاع الاجتماعية والمعيشية الآخذة في التدهور منذ سنوات ثلاث. لكن اليوميات تخالف التوقعات، فالتأزم يتصاعد والبلاد دخلت عتبة الانزلاقات الحادة والخطيرة، وفي غياب مشروع «خلاص» جماعي، لم يعد أمام البعض، افرادا وقطاعات، سوى التوجه الى مشاريع فردية صغيرة ومنتجة، على مثال مشروعي بلال وجانيت.