لبناني مستعد لـ"دفع روحه" لإنقاذ زوجته

كتبت أسرار شبارو في الحرة:

"أنا المواطن اللبناني خليل عدنان الدغيلي أعرض كليتي للبيع وذلك لعلاج زوجتي الموجودة في المستشفى حالياً"، بهذه الكلمات توجه الوالد لثلاثة أبناء عبر وسائل التواصل الاجتماعي علّه يتمكن من إنقاذ شريكة حياته، وإن كلّفه ذلك تعريض صحته للخطر.

رسالة خليل تحمل في طياتها وجع اللبنانيين الذين لا قدرة لهم على تأمين علاجهم وعائلاتهم في حال خانتهم صحتهم، فقبل الأزمة الاقتصادية كانت الصرخات تعلو من أمام أبواب المستشفيات لعجز المرضى عن دفع التأمين المتوجب لحجز سرير، فكيف الآن مع ارتفاع نسب الفقر والبطالة.

منذ سنة 2019، بدأ الوضع الاقتصادي بالتدهور في لبنان بشكل دراماتيكي، مع ارتفاع سعر صرف الدولار بصورة قياسية ومعه ارتفاع الأسعار ومن ضمنها الفاتورة الاستشفائية، لا بل رفعت الحكومة كذلك الدعم عن معظم الأدوية، ما أدى إلى ارتفاع أسعارها بشكل كبير ومع ذلك بقي قسم منها غير متوفر في السوق.

في ظل الظروف التي تمر بها البلاد لم يعد أمام المريض سوى تحمّل الأوجاع قبل أن يصل إلى النفس الأخير، إذ عندها فقط يتوجه إلى المستشفى وهو يعلم أنه سيدخل في دوامة كيفية تأمين التكاليف، الوضع صعب إلى درجة أن البنك الدولي صنّف أزمة لبنان ضمن أصعب ثلاث أزمات سجلت في التاريخ، منذ أواسط القرن التاسع عشر.
قبل حوالي الشهرين وضعت زوجة خليل، سارة الحسين مولودتها، وبدلاً من أن تفرح بهذه اللحظة حرمتها الأوجاع من ذلك مبعدة إياها عن صغيرتها، حيث تم نقلها إلى مستشفى الراعي في مدينة صيدا جنوبي البلاد، واكتشف الأطباء أن وضعها الصحي سيء للغاية، فهي تعاني كما يقول خليل من "التهاب حاد بالدم ومرض كرون المزمن".

أغلى الاثمان
يطال الفقر 82 بالمئة من مجموع السكان في لبنان بحسب "الإسكوا"، في وقت "تتقاعس فيه السلطات اللبنانية عن حماية الحق في الصحة والحياة للمواطنين"، كما وصفت منظمة العفو الدولية.

وصف الطبيب لسارة (22 سنة) علاجاً لمدة ثلاثة أشهر، وهو عبارة، كما يقول خليل لموقع "الحرة"، "عن أدوية بقيمة 400 دولار لكل شهر، بعدها ستخضع لمنظار وإذا لم يتحسن وضعها الصحي ستحتاج إلى حقنتين في الشهر سعر كل منها 1500 دولار وذلك على مدى ثلاثة أشهر".

ما يخشاه الدغيلي ألا تتمكن زوجته من الخضوع للعلاج أو حتى عدم تجاوبها معه، "ما يحتم إخضاعها لعملية استئصال للأمعاء الغليظة، مع ما يحمله ذلك من انعكاسات سلبية كبيرة ستعيق اكمال حياتها بشكل طبيعي في المستقبل".
في لبنان، تختلط مشاعر الخوف على المريض مع التفكير في كيفية تأمين فاتورة الاستشفاء والعلاج، وهو ما دفع خليل إلى إطلاق صرخة عبر وسائل التواصل الاجتماعي كونه لا يمتلك المال، لاسيما وأن زوجته تحمل الجنسية السورية، ما يعني أن وزارة الصحة اللبنانية لن تتكفل بفاتورتها الاستشفائية.

ويقول الدغيلي: "لم أجد أمامي شيئاً لأبيعه سوى أعضائي، لا بل أني مستعد لدفع روحي ثمن شفائها وعودتها إلى منزلي لتربية طفلتنا وطفليّ من زوجتي الأولى".

لم يطرق الرجل، البالغ من العمر 35 عاما، باب أي من الزعماء والسياسيين، ويشدد "ليس لدي أحد في هذا البلد، لذلك سجلت الفيديو مع يقيني أننا لم نفقد الإنسانية بعد، وهناك أياد خيرة لا تنفك عن مساعدة المحتاجين". 

ويقول بغصة "تم صرفي من عملي بعدما جلست إلى جانب زوجتي لمدة يومين، حيث كنت موظفاً في شركة تنظيفات، براتب شهري مليونين ونصف المليون ليرة، أدفع منه مليون ليرة بدل إيجار منزل وما تبقى بالكاد يكفي حاجيات أطفالي".
اتصالات عدة تلقاها ابن الخامسة والثلاثين ربيعاً بعد عرض قصته، منها لأشخاص أبدوا رغبتهم بشراء كليته، في حين تكفلت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بدفع 80 بالمئة من فاتورة استشفاء زوجته. 

كما أن هناك شخص تبّرع بثمن أدويتها لمدة شهر أي 400 دولار، وآخر من مصر اشترى لها أدوية تكفي لذات المدة على أن يرسلها عما قريب إلى لبنان، لكن رحلة علاج سارة طويلة وتكاليفها باهظة، من هنا يصر خليل على "بيع كليته كي لا يتعرقل علاجها في أي من مراحله".

يجرّم القانون اللبناني بيع الأعضاء، ويضعه ضمن خانة "الاتجار بالأشخاص"، حيث عددت المادة 586 من قانون العقوبات ما يعتبر استغلالاً وفقا لأحكام هذه المادة، ومنها إرغام شخص على الاشتراك في "نزع أعضاء أو أنسجة من جسم المجنى عليه"، وبأنه "لا تأخذ بالاعتبار موافقة المجنى عليه أو احد اصوله أو وصيّه القانوني أو أي شخص آخر يمارس عليه سلطة شرعية أو فعلية على الاستغلال المنوي ارتكابه"، أما العقوبة فتختلف بحسب توصيف القاضي للجرم.

خشية من المقبل
وكانت الأمم المتحدة حذرت، في سبتمبر الماضي، من أن 33 بالمئة من الأسر في لبنان أصبحت محرومة من الرعاية الصحية، كما ارتفعت نسبة الأسر غير القادرة على الحصول على الدواء إلى أكثر من النصف. 

والشهر الماضي، أكد مقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالفقر المدقع وحقوق الإنسان، أوليفييه دي شوتر، أن "هناك نقصاً خطيراً في آليات الحماية الاجتماعية القوية، الوضع الحالي هو نظام يحمي الأغنياء بينما يترك الأسر الفقيرة تعول على نفسها".

وانتقد خبير الأمم المتحدة عقوداً من نقص الاستثمار في نظام الرعاية الصحية العام والإلغاء الجزئي "المشين" للحكومة للدعم على الأدوية الأساسية، مؤكداً أن النقص الحاد في الأدوية وأسعار أدوية الأمراض المزمنة التي ارتفعت أربعة أضعاف على الأقل، يمثل "حكم إعدام شبه مضمون لمن هم في أمس الحاجة إليها".

منذ أن عقد خليل قرانه على زوجته، يحاول إنجاز معاملات منحها الجنسية اللبنانية، وكما يقول "أوراقها في الأمن العام، أعمل كل ما في وسعي لإتمام الأمر، فمن حقها أن تحمل جنسيتي، وإن كان ذلك لا يغير من وضعها فنحن نعلم أن كل من يسكنون في لبنان سواء كانوا مواطنين أو لاجئين أو غيرهم يعانون ذات المعاناة".

وفاة طفلة.. وبيع كلى
إذا كان خليل تمكن من إدخال زوجته إلى المستشفى، فإن الطفلة اللبنانية ياسمين المصري (عام واحد) لقيت حتفها قبل أيام بعدما عانت من ارتفاعٍ شديد في الحرارة ترافق مع تقيّؤ وإسهال، نتيجة رفض عدة مستشفيات استقبالها، بحسب ما أكدته عائلتها، وذلك "إما لعدم توفر المستلزمات الطبية أو لطلب احدى المستشفيات دفع مبلغ ألف دولار"، حيث فتحت وزارة الصحة تحقيقاً لكشفت ملابسات الحادثة.

ما حصل مع ياسمين ليست الحادثة الأولى التي يشهدها لبنان، كذلك ليس خليل أول شخص يعرض كليته للبيع في بلد أصبح كل شيء فيه باهظ الثمن سوى الإنسان، ففي شهر أكتوبر الماضي، نشرت صحيفة "التايمز" تقريراً تحت عنوان "لبنانيون يضطرّون إلى بيع كلياتهم تحت وطأة تفاقم الأزمة الاقتصادية".

وأشارت الصحيفة إلى أن عدداً من اللبنانيين، اتخذوا من وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة لعرض أرقام هواتفهم وإن كان بأسماء وهمية، وذلك لتسويق بيع أعضائهم، وبأن الأمر لم يعد يقتصر على اللاجئين السوريين، و"إذا لم يتعرض هؤلاء لعمليات احتيال وغش من جانب المتاجرين بالبشر، فمن المتوقع أن يحصل المتبرع على مبلغ يتراوح بين 6 آلاف إلى 10 آلاف دولار مقابل بيع كلية واحدة".

لا يقتصر عرض بيع الأعضاء على وسائل التواصل الاجتماعي، فهناك أشخاص نزلوا إلى الشارع رافعين لافتة أعلنوا من خلالها عرض بيع كليتهم، عن ذلك علّقت الأستاذة الجامعية والباحثة الاجتماعية البروفيسورة، وديعة الأميوني، بالقول "الوضع في لبنان مأساوي إلى درجة أن الدولة تعجز عن القيام بأدنى مسؤولياتها تجاه مواطنيها فكيف باللذين لا يحملون جنسيتها".

وأضافت الأميوني، في حديث لموقع "الحرة"، "هناك منظمات دولية تدعم اللاجئين إلا أن ذلك غير كاف، من هنا نرى من لا يترددون عن إعلان بيع أعضائهم لتأمين قوت يومهم ودوائهم، سواء كانوا سوريين بداية قبل أن ينضم إليهم لبنانيون بعد الأزمة الاقتصادية، منهم من يعلن عن ذلك على الملأ ومنهم من اقتصر الأمر على إطلاع الدائرة المحيطة به، بعدما سدت كل السبل في وجههم".

وشددت الأستاذة الجامعية "كم من الأشخاص فارقوا الحياة لعدم قدرتهم على الاستشفاء، وكم من الأشخاص أقدموا على الانتحار بعدما ماتوا عدة مرات وهم على قيد الحياة نتيجة عجزهم عن تأمين أدنى الحاجيات، وما أخشاه أن تزداد نسبة الذين يلجؤون إلى بيع أعضائهم، فيصبح الأمر ظاهرة ونصبح أمام تجارة غير شرعية للأعضاء".

أصابت الأزمة الاقتصادية التي تعصف بلبنان أحلام اللبنانيين وطموحاتهم في الصميم، فأصبحت أقصى أمنياتهم ألا يخسروا منازلهم وأن يتمكنوا من تأمين الطعام لأطفالهم وألا يحتاجوا إلى استشفاء ودواء.