لبنان الثالث عالمياً في مؤشّر البؤس: تصنيف يناقض الواقع الحياتي

سقوط الدولة في لبنان وغرقه في مشكلات وصراعات، بعضها خارج عن إرادتها ومفروض، لم يخرج البلاد وأهلها من مسار الإقبال اليومي على صناعة الحياة والإصرار على إعادة استثمار ما بقي والبناء على الموجود والمتاح، لتكرار تحدي النهوض الذي جرّبه اللبنانيون سابقاً واختبروه فأفلحوا.

مناسبة ما سلف، هو التقرير "الملتبس" في مضمونه وتوقيته وأهدافه الذي أتى به "مؤشر هانكي للبؤس العالمي" لعام 2023 الذي يضعه أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز الأميركية، ستيف هانكي، وتصنيف لبنان الثالث بين أكثر دول العالم بؤساً، والأول عربياً.

إذن جاء لبنان في المرتبة الثالثة بين الدول الأكثر بؤساً في العالم، والأولى عربياً، بحسب "مؤشر هانكي للبؤس العالمي" لعام 2023.

يستند التقرير في تقييمه لموقع لبنان إلى نسب التضخم والبطالة، ومعدلات الإقراض، وحصة الفرد من الناتج الوطني، ويفتي بأن تدني هذه، وتفشي تلك، كافيان لتموضع لبنان بين أكثر ثلاث دول بؤساً في العالم.

ربما من أكبر مشكلات لبنان أنه لا إحصاءات جدّية فيه، ولا مؤسسات رسمية موثوقة يمكن الركون إلى أرقامها، فيما التقارير الخاصة الصادرة عن المصرف المركزي أو مراكز الدراسات في المصارف وغيرها تتعارض، بل يمكن القول إنها تتناقض كلياً، مع ما ورد في تقرير هانكي.

فالتمعن ملياً في محتوى التقرير، يشي بأن واضعه، وفق ما تؤكد مصادر مطلعة، "استند إلى مقاييس ومعايير خاصة به، وضعها مع فريق عمله تتناسب وتتماهى مع اقتصاديات وقوانين دول ومجتمعات تسود فيها الشفافية والإدارة الرشيدة، إلى التنظيم العلمي والمعلوماتي الحديث، الذي يتيح لكل باحث أو مستثمر الحصول على ما يبتغي من "داتا" علمية ذات مصداقية يمكنه الركون إليها لبناء ما يهدف إلى بنائه. وهذا قطعاً غير متوافر في لبنان ومعظم الدول العربية التي تقدمت على لبنان في التصنيف". ولكن هذا ليس نفياً للصعوبات الاقتصادية والتشظي السياسي والاجتماعي الذي يعانيه لبنان، وليس إنكاراً لواقع البلاد بعد الانهيار والسقوط المروّع لليرة، لكنه رفض وعدم قبول لتقرير يفتقد الحدود الدنيا من قواعد البحث العلمي، ويفتقر إلى المعلومات والأرقام التي يتناقض معظم المنشور منها والمتوفر مع استنتاجاته".

 

كيف لعربي يعرف واقع المنطقة أو أجنبي مطلع أن يصدقا أن لبنان أكثر بؤساً من اليمن وسوريا والسودان، وهي بلدان على أخوّتها للبنان، تعاني عشرات الأضعاف من المشاكل والصراعات والحروب وانتشار مخيمات اللاجئين فيها، وانهيار النقد الوطني وضمور كافة القطاعات الاقتصادية فيها، بالإضافة إلى العقوبات الدولية التي تزيد من المعاناة والـ"بؤس" المفرط لدى شعوبها.

فالعامل الأساسي لتصنيف لبنان وسوريا والسودان ومصر، كان ارتفاع معدل التضخم. أما اليمن والعراق والأردن والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا والمغرب والسعودية والكويت، فكان العامل الأساسي فيها هو معدلات البطالة. وكان معدل الإقراض هو العامل الأساسي لترتيب الإمارات والكويت والبحرين وعمان وقطر.

"مش ماشي الحال" في لبنان... رأي لا قفز فوقه، ولا إنكار للركود، لكن مشهد القطاع الخاص في لبنان الذي أعاد الحيوية ما أمكن لشرايين الحياة الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية في لبنان، ومشهد الزيادات على الرواتب والأجور في القطاع العام، بالإضافة إلى انضباط سعر الصرف منذ سنة تقريباً، وارتفاع احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية، هي جميعها معطيات و"داتا" لا يمكن لأي باحث في الاقتصاد أو خبير محترف في دراسة مسارات الحياة الاجتماعية والإنسانية لدى الشعوب، أن يضع اللبنانيين في الموقع الذي اختاره تقرير "ستيف هانكي".

فماذا يقول المختصّون عن التصنيف؟

مدير مركز الدراسات الاقتصادية في مجموعة بنك بيبلوس نسيب غبريل، أشار الى أن الكثير من المؤشرات الاقتصادية التي تصدر عن مؤسسات مرموقة تصنف دولاً حول العام بناءً على معايير مختلفة ومنهجية واضحة مبنيّة على معايير رسمية ومعروفة. بيد أنه للأسف هذا المؤشر ليس من ضمنها، إذ إنه يفتقر الى المعايير الاقتصادية العلمية التي تعطي مصداقية لهذا الترتيب. ويقول: "في تصنيف المؤسسات العالمية، عادة ما يقع ترتيب لبنان في الثلث الأخير لمعظم المؤشرات التي تصدر عن بلدان العالم، ولكن هدف هذا المؤشر غير مقنع، إذ عدا عن أن الكثير من المؤشرات الاقتصادية التي استخدمت لاحتساب هذا المؤشر، لا يصدرها لبنان في ما عدا مؤشر مؤشر أسعار السلع الاستهلاكية (مؤشر التضخم)، أما المؤشرات الأخرى مثل نسبة البطالة، فإن آخر الأرقام الرسمية تعود الى أوائل عام 2022، وتالياً لا يمكن التوقف عند هذا المؤشر وتحليل مرتبة لبنان". ويشير غبريل الى أن "ثمة العديد من المؤشرات العلمية والمنهجية التي يمكن دراستها وتحليل مرتبة لبنان فيها، أما هذا المؤشر فلا يجب التوقف عنده كثيراً". ولم يستبعد غبريل أن يكون أحد أسباب هذا المؤشر هو إحداث ضجيج إعلامي، وليس إضفاء شفافية وإعطاء أداة إضافية لصانعي السياسات النقدية والمالية لاستخدامه في صناعة القرار.

أما الباحث في "الدولية للمعلومات" محمد شمس الدين، فجزم بأن "لبنان ليس بلداً بائساً، فهو كما كل الدول فيه نسبة أغنياء ونسبة فقراء، فيما المؤشرات التي اعتمدها "مؤشر هانكي للبؤس العالمي" غير صحيحة، إذ إن عدداً كبيراً من اللبنانيين يعتمد على التحويلات من المغتربين، فيما رواتب آخرين مرتفعة وثمة عدد لا يستهان به لديه الكثير من المدخرات". وأوضح أن "ثمة صورتين في لبنان: الأولى للناس المقتدرين الذي يعطون صورة عن الرفاهية في لبنان، وأخرى للفقراء الذي يعطون صورة عن الفقر والبؤس فيه، ولكن حتماً لا يمكن اعتبار لبنان بلداً بائساً".

أستاذ الأنتروبولوجيا في الجامعة اللبنانية، ورئيس الجمعية اللبنانية لعلم الاجتماع علي بزي ينضمّ الى غبريل في استغرابه لمضمون التقرير وتوقيته خصوصاً أن اللبناني لا يزال يستطيع تدبّر أموره، وهو ما نحاول دراسته في الجمعية للإضاءة على "سوسيولوجيا التدبير" الذي يعتمده اللبناني ليبقى صامداً، رغم نسب الفقر التي ارتفعت أخيراً الى نحو 60%.

وإذ يوضح أن مؤشر البؤس يعتمد على متغيرات عدة مثل "متغير الاستهلاك والمصروف وقدرة المواطن على تأمين الخبز والمياه والكهرباء والنقل، إضافة الى الحد الأدنى للأجور، وامتلاك المنزل والسيارة، ودخل الأسرة، وقدرة المواطن على الطبابة ودخول المستشفى، ومؤشر البطالة، وهي مؤشرات يمكن أن نلحظها في لبنان، ولكن لا تصل الأمور الى تصنيفنا في مصاف الدول الأكثر بؤساً، فاللبناني يمكنه التأقلم مع الكثير من المتغيرات التي قد تطرأ بدليل البدائل التي يعتمدها عند الازمات، وأكبر دليل على ذلك أزمتا الكهرباء والمياه".

صحيح أن المؤشر لا يعتمد على مؤشر الحروب، بيد أن الأوضاع الامنية التي يعيشها اللبنانيون يمكن أن تؤثر على نفسيتهم، وفق ما يقول بزي "لكن في المقابل نجد أنهم يتكيفون مع أوضاعهم بدليل الحفلات التي تقام في المناطق والزحمة في المطاعم في كل الأوقات والمواسم".