المصدر: جريدة الحرة
الكاتب: شليطا بو طانيوس
الجمعة 6 حزيران 2025 09:28:07
كتب د. شليطا بو طانيوس في جريدة الحرة:
تنقّل لبنان، عبر تاريخه الحديث، بين محطات من الازدهار والانهيار. فترات عاش فيها اللبنانيون استقرارًا سياسيًا (نسبيًا)، وأخرى تكبّدوا خلالها ويلات الحروب والمجاعات والانقسامات. واليوم، يعود السؤال القديم ليُطرح من جديد: هل يتحقّق فعلًا لبنان الذي يحلم به أبناؤه؟ أم أن الوطن سيبقى عالقًا في دوّامة أزمات لا تنتهي؟
بعد عام 1840، كان جبل لبنان محكومًا بنظام القائمقاميتين، إثر تدخّل خارجي أعقب فتنة دمويّة بين الموارنة والدروز خلّفت آلاف الضحايا. غير أن هذا النظام أثبت عجزه أمام تعقيد البنية الاجتماعية وتغيّر التوازنات الاقتصادية والسياسية. فانهار، واندلع صراع طائفي مسلّح جديد، في عام 1860، مدفوعًا بالتحريض، والاحتقان الطبقي، والتدخلات الإقليمية والدولية. سرعان ما تحوّل، إلى مجازر مفتوحة راح ضحيتها أكثر من عشرة آلاف قتيل لبناني، ومئات القرى المحروقة، وجرح نفسي-اجتماعي لا يزال أثره يتردّد حتى اليوم.
غير أن هذه الأزمة المروّعة فتحت الباب أمام صيغة سياسية جديدة عُرفت بـ”نظام المتصرفية”، أو ما سُمّي لاحقًا “لبنان الصغير”، بمساحة 3500 كيلومتر مربع. خلال هذه المرحلة، عاش لبنان فترة من الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والاجتماعي، حتى قيل فيه المثل الشعبي: “نيّال يلّي عنده مرقد عنزة بجبل لبنان”.
لكن هذه المرحلة الذهبية لم تستمر، إذ سرعان ما اندلعت الحرب العالمية الأولى (1914–1918)، ورافقها حصار خانق من العثمانيين، وضربت المجاعة اللبنانيين، حتى قضى خلالها نحو 150 ألف لبناني من أصل 450 ألف نسمة، أي ما يقارب ثلث السكان.
بعد الحرب، خضع لبنان للانتداب الفرنسي، وأُعلنت “دولة لبنان الكبير” في الأوّل من أيلول عام 1920. ظنّ اللبنانيّون أنّ حلمهم بإقامة وطن حقيقيّ قد تحقّق، غير أنّ هذا الكيان الجديد حمل معه توازنات طائفية هشّة زرعت بذور الانقسام السياسي والاجتماعي منذ البداية. ومع أن لبنان نال استقلاله عن فرنسا في 22 تشرين الثاني عام 1943، فإن التجاذبات الإقليمية والطائفية سرعان ما أعادت إشعال الصراع الداخلي، وكان أول انفجار له في ثورة عام 1958 ضد حكم الرئيس كميل شمعون، على خلفية الانحياز إلى الوحدة العربيّة التي دعا إليها الرئيس المصري جمال عبد الناصر.
رغم الاضطرابات حينها، عرف لبنان في الخمسينيات والستينيات ازدهارًا اقتصاديًا وثقافيًا نادرًا، جعل من بيروت عاصمة للفكر، والإعلام، والمصارف في الشرق الأوسط، حتى بات لبنان “سويسرا الشرق”. ولكن، وكأن قدر هذا البلد ألا يهنأ طويلًا، فقد اندلعت الحرب الأهلية في عام 1975، واستمرت 15 عامًا، مزّقت البلاد وأودت بحياة الآلاف، قبل أن تنتهي باتفاق الطائف عام 1989، الذي أوقف الحرب دون أن يعالج جذورها العميقة، بل كرّس نظام المحاصصة الطائفية بشكل جديد.
بعد اتفاق الطائف، ساد هدوء نسبيّ، وبدأ رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري مشروع إعادة الإعمار وتوسيع الاقتصاد، معتمدًا على سياسات اقتصادية قائمة على الديون والانفتاح المفرط. ثمّ جاء اغتياله في عام 2005 ليشكّل زلزالًا سياسيًا كبيرًا، تلاه خروج الجيش السوري من لبنان بعد ثلاثين عامًا من السيطرة. ظنّ اللبنانيون حينها أن صفحة جديدة قد فُتحت، عنوانها: الحرية والسيادة والاستقلال.
لكن التفاؤل لم يدم. فالانقسامات عادت، والمؤسسات ضعفت، والتراجع الاقتصادي والاجتماعي تسارع بوتيرة خطيرة.
في السنوات الأخيرة، انفجرت كل التناقضات دفعة واحدة: انهيار مالي خانق، فقدان الليرة لقيمتها، تفكك القطاع المصرفي، فوضى حكومية دائمة، ثم انفجار مرفأ بيروت عام 2020، الذي شكّل كارثة إنسانية ووطنية. وبين عامَي 2024 و2025، اندلعت الحرب الأخيرة مع إسرائيل، لتعمّق الجراح وتزيد من معاناة اللبنانيين.
اليوم، وبعد كل هذه المحطات، يقف لبنان أمام فرصة تاريخيّة جديدة، لذلك لا بدّ من طرح سلسلة من الأسئلة:
هل تكون هذه الحرب نهاية مرحلة وبداية ولادة وطن جديد؟ أم مجرّد حلقة إضافية في سلسلة الانهيارات؟
هل يتعلّم اللبنانيون من الماضي؟
هل ينجحون في كسر الحلقة المفرغة من الصّراع والانقسام؟ أم أن لبنان سيبقى أسير تاريخه، عاجزًا عن رسم مستقبله؟
إن تاريخ لبنان ليس فقط قصة سقوط، بل أيضًا قصة نهوض متكرّر. غير أن الفارق هذه المرّة هو حجم الأزمة وعمقها، وتكرارها من دون إصلاح جذري. والجواب على كلّ تلك الأسئلة، كما دائمًا، رهن بوعي الناس وإرادتهم. فلبنان الجديد لن يولد من اتفاقات خارجية، بل من يقظة داخلية تعيد تعريف معنى المواطنة، والمسؤولية، والعدالة، وتضع لبنان أولًا وأخيرًا.