لبنان بين مشهدين: ثقافة الحياة في مواجهة ثقافة التبعية

شهد مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت خلال ساعات قليلة مشهدين متناقضين تماماً، عكسا بوضوح الفجوة العميقة بين رؤيتين متباينتين للبنان ومستقبله. الأول كان استعراضاً لمناصرين لـ"حزب الله" وصلوا من إيران عبر العراق، حاملين صور الأمين العام السابق لـ"الحزب" السيد حسن نصرالله، ومطالبين برفعها في أرجاء المطار. أما الثاني، فكان احتفالاً بعودة لاعبات منتخب لبنان لكرة القدم بعد فوزهن بكأس آسيا للناشئات، حيث دخلن المطار مفعمات بالفخر والفرح، رافعات اسم لبنان عالياً.

استعراض الولاء في المطار

مع وصول مناصري "حزب الله"، ارتفعت الهتافات المؤيدة لإيران والسيد نصرالله، من قبيل "لبيك يا نصرالله" و"هيهات منا الذلة"، وسط اتهامات لعناصر أمن المطار والقوى الأمنية بتنفيذ "إملاءات إسرائيلية وأميركية"، في تخوين واضح لأجهزة الدولة. وقد أثار إصرار هؤلاء على رفع صور نصرالله داخل المطار ردود فعل متباينة، خاصة مع تدخل الأمن لمنع ذلك، ما أدى إلى تجمعهم ورفضهم الامتثال، وتحويل المطار إلى ساحة استعراض سياسي لا علاقة له بوظيفته كمرفق عام.

على الضفة الأخرى: الفرح والإنجاز الرياضي

على النقيض تماماً، وبفارق بضع ساعات، تحول مطار رفيق الحريري إلى ساحة فرح بعودة لاعبات المنتخب اللبناني للناشئات بعد تحقيقهن إنجازاً رياضياً غير مسبوق. مشهد مختلف تماماً: استقبال جماهيري، أجواء احتفالية، وهتافات تعبّر عن الفخر بالوطن. لقد جسدت هذه اللحظة صورة لبنان المنفتح، لبنان الطموح الذي يسعى إلى تحقيق الإنجازات، بعيداً من الاصطفافات السياسية والصراعات الأيديولوجية.

مقارنة بين ثقافتين

في تعليقه على المشهدين، قال الصحافي طوني بولس: "هذا المشهد هو انعكاس لصورة لبنان المنقسم بين مشروعين سياسيين: الأول، مشروع "حزب الله" الذي يريد لبنان جزيرة خمينية تابعة لإيران، حيث يتم التعامل مع مطار بيروت وكأنه امتداد لمطار الخميني في طهران، وهو نموذج يعكس ثقافة الموت والتبعية والانعزال. في المقابل، هناك لبنان الحقيقي الذي يعكس ثقافة الحياة والانفتاح، ويفتخر بإنجازاته في الرياضة والفن والثقافة".

 

وأضاف بولس: "ما رأيناه في المطار هو صورة مصغّرة عن الصراع القائم في البلد: فريق يسعى لجرّ لبنان إلى العزلة والارتهان للخارج، وآخر يريد له أن يكون جزءاً من العالم المتحضر، حيث يُرفع اسم الوطن في المحافل الدولية بإنجازات مشرفة، وليس بشعارات عقائدية".

المدينة الرياضية: من منصة للنجاح إلى ساحة استعراض سياسي؟

وفي سياق متصل، تطرق بولس إلى التحضيرات الجارية لمراسم التشييع المرتقبة في 23 شباط، والتي ستُقام في المدينة الرياضية، مشيراً إلى أن "هذا المكان الذي بناه الرئيس كميل شمعون ليكون منصة للرياضة والانفتاح، ثم أعاد ترميمه الرئيس رفيق الحريري، يتحول اليوم إلى ساحة استعراض حزبي، بدلاً من أن يبقى رمزاً للإنجازات الوطنية".

وتابع بولس: "هذه المدينة التي احتضنت بطولة آسيا 2000، وأحيا فيها السوبرانو العالمي بافاروتي حفلاً مهيباً عام 2002، تتحول اليوم إلى مسرح لاستعراض سياسي طائفي. إنها رسالة واضحة مفادها بأن "حزب الله" يريد تأكيد هيمنته على الساحة اللبنانية، ولو كان ذلك على حساب رموز الدولة المدنية والرياضية".

الهيمنة على مؤسسات الدولة

أما عن الشعارات التي أطلقها مناصرو "الحزب" داخل المطار، مثل "هذا وطننا، وهذا المطار لنا، والسيد حسن هو وطننا"، فقد اعتبرها بولس دليلاً على نهج "حزب الله" في محاولة فرض سيطرته على الدولة ومؤسساتها. وأوضح: "هذه التصريحات تعكس بوضوح كيف تتم أدلجة الجمهور منذ الصغر، ليتحول الولاء من الدولة اللبنانية إلى إيران. هم مقتنعون بأن لبنان مجرد جزء من مشروع ولاية الفقيه، وأن كل المؤسسات الرسمية يجب أن تكون تحت سلطتهم المطلقة".

اتهامات بالعمالة: سلاح التخوين جاهز دائماً

في ما يتعلق باتهام القوى الأمنية بتنفيذ "إملاءات إسرائيلية وأميركية"، شدد بولس على أن هذه الأسطوانة تكررت في أكثر من محطة، وهي مجرد وسيلة لتبرير أي مواجهة مع مؤسسات الدولة. وأضاف: "الطريف في الأمر أن من يطلقون هذه الاتهامات هم أنفسهم من كانوا يتوسّلون وقف إطلاق النار خلال الحرب الأخيرة، وهم أنفسهم من وافقوا على اتفاقيات ترسيم الحدود التي أقرتها "حركة أمل" و"حزب الله" مع إسرائيل. فلماذا يرمون التهم جزافاً على الآخرين؟".

أي لبنان نريد؟

ما جرى في مطار بيروت ليس مجرّد حدث عابر، بل هو انعكاس لصراع أكبر حول هوية لبنان ومستقبله. هل نريد بلداً يحتفي بإنجازاته الرياضية والثقافية والعلمية، بلداً يشكل نقطة تواصل بين الشرق والغرب؟ أم نريده معزولاً، محكوماً بعقلية التبعية والانغلاق؟

بين مطار يحتفل ببطلات لبنان، ومطار يتحول إلى ساحة استعراض حزبي، تتحدد معالم المستقبل. فإما لبنان الحياة والانفتاح، وإما لبنان التبعية والصراعات العقائدية.

والخيار، في النهاية، يبقى بيد اللبنانيين!