المصدر: المدن
الكاتب: إيلي الحاج
الثلاثاء 28 تشرين الأول 2025 10:50:49
ينظر كثر إلى سوء حظ لبنان بسبب موقعه الجغرافي. منذ نشوء دولة إسرائيل في 1948، قامت مرايا متقابلة بين الوضع على تلك الحدود وبين الداخل اللبناني. لطالما ربط عالِم التاريخ كمال الصليبي في كتاباته عقدَي الهدوء (بتوقيع اتفاقية الهدنة في 1949) و(اتفاقية القاهرة في 1969)، بأوضاع الحدود والتحوّلات السياسية اللبنانية. كان ذلك في ظل صراع اصطف فيه أنصار "القومية العربية" زمن الرئيس المصري جمال عبد الناصر، مقابل أنصار "الوطنية اللبنانيّة"، بفعل تكوين طائفيّ هشّ لدولة "وُلِدت برغبة مسيحية ورضيَ بها المسلمون على مَضض".
إلّا أن الصورة انقلبت رأساً على عقب خلال عقود الحروب والسلم التي أعقبتها. وها هو رئيس الحكومة نوّاف سلام في 2025 يقود عمليّاً وحَرفيّاً معركة استعادة الدولة سيادتها ووحدتها على كل أراضيها. أين أصبحت الأحزاب والجماعات التي كانت تطالب في الستينيّات والسبعينيّات بفتح الحدود أمام العمل المسلح؟ وكيف تقلبت الجماعة المسيحية التي أعطت ولاءها وأصواتها في مرحلة ما لزعامة ميشال عون المؤيدة لوارث التنظيمات الفلسطينية "حزب الله"؟ هذا موضوع آخر وطويل.
"الهدنة" (1949): عشرون عاماً من الهدوء الهش
ضمنت اتفاقية الهدنة التي وُقّعت في رأس الناقورة بتاريخ 23 آذار 1949، هدوءاً نسبياً للبنان على حدوده الجنوبية استمرّ ما يُقارب عقدَين، على نقيض أوضاع حدود الأردن ومصر وسوريا. حدثت خروق متقطعة تحمّل تبعاتها ضباط وجنود في الجيش اللبناني ومزارعون ورعاة جنوبيون، بفعل عمليات توغل متبادلة وهجمات بين الجيش الإسرائيلي وجماعات مسلحة من اللاجئين الفلسطينيّين.
الجيش اللبناني، الذي لم يُنشأ على أساس خوض مواجهات عسكرية خارجية كبيرة، نجح إلى حد بعيد في حفظ الأمن الداخلي ومواجهة التحديات السياسية. مرّت بسلام حدوديّ جنوباً عهود بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب، قبل أن تنفجر القنبلة الكامنة في وجه الرئيس المسالم شارل حلو في السنتين الأخيرتين من عهده.
بفعل هدوء الحدود والوضع الاقتصادي المزدهر نسبياً مدة عشرين عاماً، تحوّل لبنان ملجأً ومستقراً للنشاطات السياسية والإعلامية والاقتصادية العربية. أدّت سياسة الانفتاح واللحاق بركب الحداثة إلى تحويله "جزيرة" مختلفة عن أحوال دول المنطقة التي حكمتها أنظمة عسكرية وقومية. العدد الأكبر من الضحايا والجرحى في تلك الحقبة لم يسقط بفعل خروق الهدنة، بل بسبب التناقضات الداخلية التي كانت تتفاقم تحت السطح.
لا بد من المرور بأزمة الهوية والولاء، التي كتب عنها كمال الصليبي وانعكست في أزمة 1958 أو "الفتنة". كانت في الواقع حرباً أهلية مصغّرة ومقدمة لأهوال ما سيحدث لاحقاً. حملت في جوهرها صراعاً داخلياً حول محور الانتماء: هل يكون لبنان جزءاً من الوحدة بين مصر عبد الناصر وسوريا، أو يتبع الغرب؟ كانت الهدنة الظاهرة في الداخل تحمي الهدنة مع إسرائيل، وتخفي في الوقت نفسه انقساماً عميقاً حول الهوية والمصالح، مما جعل لبنان عرضة للانهيار عندما بدأت المنطقة تغلي بعد "حرب النكسة" في 1967، ثم مع بدايات سيطرة التنظيمات الفلسطينية المسلحة على أجزاء واسعة من بيروت وسائر لبنان.
"اتفاقية القاهرة" (1969): سقوط الهدنة وشرعنة العمل الفدائي
يمكن القول إن توقيع "اتفاقية القاهرة" كان إيذاناً فعلياً بتفكيك وسقوط اتفاقية الهدنة اللبنانية-الإسرائيلية. تنصّ اتفاقية الهدنة على وقف الأعمال العسكرية، احترام الحدود الدولية، ومنع أي عمل حربي أو عدائي ينطلق من أراضي أي من الطرفين ضد الآخر، بما في ذلك القوات غير النظامية، مما يتطلب سيادة الدولة اللبنانية الكاملة على أراضيها.
منحت الدولة اللبنانية بموجب "اتفاقية القاهرة" الفصائل الفلسطينية المسلحة صفة الشرعية، وسمحت بـ"تسهيل العمل الفدائي" انطلاقاً من الأراضي اللبنانية، خصوصاً في منطقة العرقوب التي سُمّيت "فتح لاند". كان توقيع قائد الجيش اللبناني إميل البستاني وقائد "منظمة التحرير الفلسطينية" ياسر عرفات، برعاية وضغط من الزعيم المصري جمال عبد الناصر، نقطة تحوّل بارزة في تاريخ لبنان الحديث.
بمجرد توقيعها، على وقع الاشتباكات بين الجيش اللبناني والفصائل الفلسطينية وضغط الشارع المؤيّد لشعار "فتح كل الحدود"، اعتبرت إسرائيل أنها في حِلّ من التزامها "اتفاقية الهدنة". لم يتأخر ردّها العسكري على قواعد "الفدائيّين"، مما أوصل إلى انهيار الهيكل الأمني الذي أقامته هدنة 1949. وبدأت "جلجلة الجنوبيّين" بضربات مهّدت لاندلاع "حروب لبنان" المتنوعة بعد 13 نيسان 1975.
قرارات ومحاولات: من 425 إلى 1701
تلاحقت الحروب والأوضاع القانونية الدولية لإدارة أحوال الحدود بعد سقوط اتفاقية الهدنة.
القرار 425 (1978): صدر عن مجلس الأمن الدولي تحت الفصل السادس رداً على اجتياح إسرائيلي حتى الليطاني. طالب بالانسحاب الإسرائيلي الفوري والكلّي لتصبح الأراضي في عهدة الجيش اللبناني وحده بمساعدة قوة "اليونيفيل". كانت النتيجة المباشرة فشلاً في التنفيذ الفوري، ولم يتحقق الانسحاب إلا عام 2000.
اتفاق 17 أيار (1983): كان محاولة اتفاق على انسحاب القوات الإسرائيلية التي احتلت مناطق واسعة، لقاء ما يشبه معاهدة سلام لم تُصادق. وظيفته الأساسية كانت إنهاء حالة الحرب ووضع ترتيبات أمنية تضمن عدم القدرة على مهاجمة إسرائيل من أراضي الجنوب. مصير الاتفاق كان فشلاً ذريعاً وأُلغي رسمياً عام 1984 بسبب الرفض الداخلي (لا سيما من حركة "أمل" والحزب التقدمي الاشتراكي)، والضغط الإقليمي من إيران وسوريا ودولياً من الاتحاد السوفياتي، ليبرز بعدها دور "حزب الله" الكبير.
القرار 1701 (2006): قرار شامل لمجلس الأمن تحت الفصل السادس، وظيفته الأساسية تحقيق وقف الأعمال العدائية وتثبيت الردع من خلال نشر وحدات الجيش اللبناني واليونيفيل المعززة جنوب الليطاني. كانت نتيجته هدوءاً طويل الأمد (نحو 18 عاماً)، رغم فشله في نزع سلاح ميليشيا "حزب الله".
اتفاق ترسيم الحدود البحرية (2022): تفاهم فني غير مباشر مع إسرائيل، قاده "حزب الله" عبر حليفه رئيس مجلس النواب نبيه بري بوساطة أميركية تمثلت في المبعوث آموس هوكشتاين. وظيفته كانت تحديد الموارد البحرية وحل نزاع الطاقة. نتيجته الرئيسية نزع فتيل نزاع جيوسياسي-اقتصادي كبير وتأمين حق لبنان في التنقيب عن النفط.
اتفاق وقف النار (2024): يمثل آليات تنفيذية للقرار 1701، تم التوصل إليها بعد حرب "إسناد غزة" الواسعة التي استمرت 66 يوماً وفقد فيها "حزب الله" قيادته. وظيفته الأساسية وقف الحرب وإعادة تمركز القوات الإسرائيلية واللبنانية الشرعية على الخط الأزرق تحت رقابة مشددة. نتيجته إعادة تفعيل القرار 1701 مع تعزيز وجود الجيش اللبناني في الجنوب وتسلم مواقع ومخازن عدة للحزب هناك.
الخلاصة: إدارة نزاع تحت ضغط الأمر الواقع
تُظهر هذه المقارنة أن العلاقة بين لبنان وإسرائيل لم تعرف قط حالة السلام الدائم، بل حالة من "إدارة نزاع" تتأرجح بين ضغط الأمر الواقع العسكري وبين محاولات فصل الملفات التي تخدم المصلحة الاقتصادية للدولة اللبنانية. ويبقى اتفاق 17 أيار لائحاً في الأفق، ما دام الاختلال في موازين القوى بفعل نتيجة "حرب الإسناد" يكبر يوماً بعد يوم، حتى أن إسرائيل اغتالت نحو 365 كادراً وعنصراً في "حزب الله" خلال سنة بعد اتفاق وقف النار الأخير الذي ألحّ عليه "الحزب"، من دون احتساب الشهداء المدنيين، من غير أن تلقى أي رد فعل من "الحزب"، سوى كلمات.