لبنان وإسرائيل إلى المواجهة أو تفاوُض... "وجهاً لوجه"؟

لم يكن أدلّ على المَخاطر المتوالِدة التي توشك أن «تُطْبِقَ» على لبنان من ازدياد «متاعب» قيادته السياسية التي باتت عالقةً بين إمعان إسرائيل في اعتداءاتها، التي تُنْذِرُ بأنها «تمهيدية» لعملياتٍ قتالية أوسع، وبين ممانعة «حزب الله» تسليم سلاحه بما يعطّل صاعِقَ حربٍ يُخشى أن «تُعتمَد» كممرّ لإلحاق «بلاد الأرز» بقطار «سلام غزة» بمعناه الجيو - سياسي.

ولفّ لبنان أمس، غبارُ تصعيدٍ إسرائيلي واسع في الجنوب جاء غداة مغادرة الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس بيروت، في ما بدا «إشارةً بالنار» لعدم الرضا على السَقف الذي ارتسمَ في ما خصّ موقف لبنان الرسمي من التفاوض المباشر، شكلاً وتمثيلاً، وتحبيذه آليةً تَفاوضية «منزوعة الدسم» السياسي والدبلوماسي عبر لجنة الإشراف على مراقبة تنفيذ اتفاق وقف الأعمال العدائية (27 نوفمبر).
كما اعتُبر تَغَوُّل إسرائيل في اعتداءاتها وكان أكثرها عدوانيةً وإجراماً التوغّل في بلدة بليدا و«إعدام» أحد العاملين في بلديتها إبراهيم سلامة داخل مبنى البلدية، في إطارِ رفْع منسوب الضغطِ لتسريع وتيرةِ سَحْبِ سلاح «حزب الله» من جنوب الليطاني وشماله وإلا «أنجزتْ تل أبيب المَهمة» أو فَتَحَتْ الطريق لها بـ «حربٍ هادفة» صارت «الحمّالة السياسية» للخروج منها جاهزةً.

هذا الواقع الذي يَشي بأن لبنان صار عملياً بين «فكّي كماشة» عسكرية ودبلوماسية، بدا أنه يتّجه لمزيد من التعقيدات التي بدأتْ تَكبر كـ «كرة الثلج» بالتوازي مع تسخين إسرائيل الأرضية وإشعالها فَتيل تَصعيدٍ يتزامن مع مسألتين:

- عملية «مراكمة» إعلامية خطيرة أقرب إلى «بناء قضية» وحيثياتها عبر تقارير، بأرقام وخرائط، عما تدعي تل أبيب أنه مَسار إعادة تأهيل الحزب لبنيته العسكرية وتكوين مخزونه من الأسلحة خصوصاً شمال الليطاني وفي البقاع.

- الكشف عن «جلسة نقاش خاصة» لرئيس وزرائها نتنياهو ووزير الدفاع يسرائيل كاتس ليل الخميس - الجمعة، مع كبار المسؤولين الأمنيين لبحث تَجَدُّد التوترات على الجبهة الشمالية، واستحضار قناة i24NEWS ما صرّح به مسؤولون من أن تل أبيب «تقترب من اتخاذ قرار بشأن خطواتها التالية في ضوء تزايد انتهاكات حزب الله ومحاولاته لإعادة تسليح نفسه».

وإذ عَكَسَ تركيزُ اهتمام نتنياهو على جبهة لبنان رغم المسار الشاق الذي يَسلكه اتفاق غزة خطورةَ ما يمكن أن تكون إسرائيل تحوكه للبنان من خلْف ظهر حِراك «الترسانة» الدبلوماسية الأميركية والمصرية والعربية تجاه بيروت ومناخاتِ الطمأنة التي يُخشى أنها «تخديرية»، فإن رئيس الوزراء مضى في توجيه الرسائل متعددة البُعد باستحضاره قولاً شهيراً للأمين العام السابق لحزب الله السيد حسن نصرالله، عن أن «إسرائيل أوهن من بيت العنكبوت»، وذلك حين أعلن «مَن قال إننا مصنوعون من خيوط العنكبوت اكتشف أننا مصنوعون من فولاذ لا يَنكسر».

التصدي للتوغلات الإسرائيلية

وما زاد من التعقيد على المشهد اللبناني تَمَثّل في المعادلة الدقيقة التي ارتسمت من قَلْبِ الموقف المتقدّم للرئيس العماد جوزف عون والذي طلب للمرة الأولى من قائد الجيش العماد رودولف هيكل «تصدي الجيش اللبناني لأي توغل إسرائيلي في الأراضي الجنوبية المحرَّرة دفاعاً عن الأراضي اللبنانية وسلامة المواطنين».

وخضعت هذه الدعوة لتأويلاتٍ في بيروت، وسط اعتبارها من بعض الأوساط موقفاً سياسياً برسْم الدول الراعية لاتفاق وقف النار (27 نوفمبر) ولا سيما واشنطن لجهة وجوب ألّا يكون الضغط «في اتجاه واحد»، أي على بيروت لسحب سلاح الحزب، بل على إسرائيل بدرجةٍ أوْلى للكف عن انتهاكاتها للاتفاق وإحراج لبنان عوض القيام بما قد يساعد في «نزع الذرائع» من أمام الحزب تحت عنوان إفقاد السلاح أو إفراغه من «وظيفته».

على أن أوساطاً أخرى أبدتْ في المقابل خشيةً من أن يكون لبنان صار في حقل ألغام أكثر كثافةً، لافتةً إلى أنه في حال كررت إسرائيل توغلاتها، وهو ما يُرجح أنها في وارده، فإن أي امتناعٍ للجيش اللبناني عن التصدي له سيشكل انتكاسة للمؤسسة العسكرية وللرئيس عون في ضوء موقفه المتقدم، كما أن تنفيذَ «أمر القائد الأعلى للقوات المسلّحة» (في لبنان هو رئيس الجمهورية) سيكون مَحفوفاً بخطر أن تستدرج إسرائيل لبنان إلى «ملعب النار»، بحيث يتحوّل الجيش خط دفاع أول أمام حزب الله أو يصبحان على «الخط نفسه»، مع ما يعنيه ذلك من إزالةِ «الخيط» الفاصل بين الدولة والحزب في أي حرب جديدة.

مُسيّرات وطيران حربي

وفي الإطار نفسه، تضيء الأوساط على الارباكات التي ستترتّب على صعيد تسليح واشنطن للجيش اللبناني في حال جرّه من إسرائيل إلى صِدامٍ سيكون بسلاح أميركي، وهو ما يُظَهِّر حجم التعقيدات والتشابكات التي باتت تحوط بالوضع في «بلاد الأرز» وتالياً يعمّق الخشيةَ من اقترابه من لحظةِ كشْف الخطوات التالية وخصوصاً من تل أبيب التي لم تتأخّر في «الردّ» من الجو على موقف عون عبر «تمشيط» المسيّرات مجدداً أجواء منطقة بعبدا والقصر الجمهوري بالتوازي مع تحليق الطيران الحربي في سماء بيروت بمقراتها الرسمية، وصولاً إلى تنفيذ غارات على أطراف بلدة العيشية (والجرمق والخردلي في قضاء جزين) وهي مسقط الرئيس اللبناني.

وكان هيكل أطلع عون على «تفاصيل التوغل الإسرائيلي الذي حصل في بلدة بليدا واستشهاد أحد العاملين في البلدية، إبراهيم سلامة، خلال قيامه بواجبه المهني».


واعتبر عون أنّ «هذا الاعتداء الذي يندرج في سلسلة الممارسات الإسرائيلية العدوانية، أتى بعيد اجتماع لجنة مراقبة اتفاق وقف الأعمال العدائية (الميكانيزم) التي يفترض ألا تكتفي بتسجيل الوقائع بل العمل لوضع حد لها من خلال الضغط على إسرائيل ودفعها إلى التزام مندرجات اتفاق نوفمبر الماضي ووقف انتهاكاتها للسيادة اللبنانية».

قيادة الجيش

بدورها أشارت قيادة الجيش في بيان إلى أنّه «بتاريخ 30/ 10/ 2025 فجراً، توافرت معلومات حول إطلاق نار في محيط مبنى بلدية بليدا - مرجعيون. على الفور، توجهت دورية من الجيش إلى المكان، حيث تبيّن أن وحدة بريّة معادية توغلت داخل البلدة، وأطلقت النار على مبنى البلدية، واستهدفت أحد موظفيها ما أدى إلى استشهاده».

ولفتت إلى أنّ «ما أقدم عليه العدو الإسرائيلي هو عمل إجرامي وخرق سافر للسيادة اللبنانية وانتهاك لاتفاق وقف الأعمال العدائية والقرار 1701، ويأتي في سياق الاعتداءات المتواصلة من جانبه على المواطنين الآمنين».

وشددت على أنّ «الادعاءات والذرائع الواهية التي يطلقها العدو باطلة ولا تمت إلى الحقيقة، وإنما تهدف إلى تبرير انتهاكاته ضد وطننا ومواطنينا».

وطلبت قيادة الجيش من (الميكانيزم) وضع «حد لانتهاكات العدو الإسرائيلي المتمادية، كما تتابع القيادة باستمرار انتهاكات العدو بالتنسيق مع قوة الأمم المتحدة الموقتة في لبنان - اليونيفيل».

وأوردت «الوكالة الوطنية للإعلام» الرسمية تفاصيل الجريمة المروعة في بليدا. وذكرت أنه في «اعتداء خطير وغير مسبوق»، توغلت قوة إسرائيلية قرابة الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل داخل البلدة ولمسافة تتجاوز الألف متر عن الحدود، مدعومة بآليات عسكرية و«أي تي في» وهي مركبة آلية للطرق الوعرة.

واقتحمت القوة مبنى بلدية بليدا، حيث كان يبيت داخله الموظف إبراهيم سلامة، الذي أقدم جنود الاحتلال على قتله أثناء نومه.

وأضافت أنه خلال العملية أفاد الأهالي بسماع أصوات صراخ واستغاثة صادرة من المبنى، في حين استمر التوغل حتى الساعة الرابعة فجرا (بالتوقيت المحلي) قبل أن تنسحب القوة الإسرائيلية.

وبعد الانسحاب الإسرائيلي دخل الجيش إلى المبنى، حيث تم نقل جثة سلامة بمساعدة الدفاع المدني إلى المستشفى.

اعتداءٌ صارخ

واعتبر رئيس الوزراء نواف سلام أن التوغل الإسرائيلي في بليدا «واستهدافها المباشر لموظّفٍ في البلدية أثناء تأدية واجبه، هو اعتداءٌ صارخ على مؤسسات الدولة اللبنانية وسيادتها».

وقال: «كلّ التضامن مع أهلنا في الجنوب والقرى الأمامية الذين يدفعون يومياً ثمن تمسّكهم بأرضهم وحقّهم في العيش بأمانٍ وكرامة تحت سيادة الدولة اللبنانية وسلطتها. ‏نتابع الضغط مع الأمم المتحدة والدول الراعية لاتفاق وقف الأعمال العدائية لضمان وقف الانتهاكات».

استباحة إسرائيلية

وإذ أعلن رئيس مجلس النواب نبيه بري أنّ «ما حصل في بليدا والعديسة والعدوان الجوي صباحاً على أطراف بلدات العيشية والجرمق والخردلي، وانتهاك أجواء العاصمة بيروت وضاحيتها الجنوبية، هو فعل يتجاوز الاستباحة الإسرائيلية للسيادة الوطنية بل هو عدوان على لبنان لا يمكن لجمه بالإدانة»، مشدداً على أن «اللحظة الراهنة تستدعي من جميع اللبنانيين استحضار كل عناوين الوحدة ودعم رئيس الجمهورية وموقفه الأخير حيال ما حصل اليوم»، ندّد «حزب الله» بالعدوان الإسرائيلي وإعدام العدو بدم بارد موظف البلدية الشهيد إبراهيم سلامة وهو نائم في فراشه.

ودان الحزب «بشدة هذه الجريمة الإسرائيلية الجديدة، والتي أتت مباشرة بعد ‏زيارة الموفدة الأميركية إلى لبنان وترؤسها اجتماعات لجنة الميكانيزم»، معتبراً أن «العدوان ‏الصهيوني على بلدنا يتم بشراكة وتواطؤ أميركي، وأن واشنطن هي صاحبة ‏الضوء الأخضر لكل تصعيد إسرائيلي ولكل عدوان، بهدف الضغط على لبنان لتنفيذ ‏أجندة ومشاريع خبيثة لا تتوافق مع مصلحته الوطنية ولا تحفظ له سيادته وعناصر ‏قوته». ‏

وثمّن «موقف رئيس الجمهورية بالطلب من الجيش مواجهة ‏التوغلات الإسرائيلية»، داعياً إلى«دعم الجيش بكل الإمكانيات اللازمة لتعزيز ‏قدراته الدفاعية وتوفير الغطاء السياسي لمواجهة هذا العدو المتوحّش».

في موازاة ذلك، شن الطيران الحربي الإسرائيلي غارة على منطقة اللبونة في الناقورة قبل أن تنفذ قواته تفجيرات في محيط موقع اللبونة المحتل. كما ألقت محلقة إسرائيلية قنبلة صوتية على أطراف بلدة شبعا على منزل أحد رعاة الماشية بالتزامن مع اطلاق رشقات رشاشة وافيد عن إصابة زوجة الراعي وطفلها جراء هذه القنبلة.

وإذ استهدفت غارة بصاروخ موجه الطريق العام في بلدة حاروف استقر الصاروخ وسط الطريق وافيد عن إصابة طفيفة. كما أطلق الجيش الإسرائيلي قذيفة من مربضه في موقع ديشون باتجاه بلدة يارون في قضاء بنت جبيل.

وقبل الظهر شنّت إسرائيل سلسلة غارات استهدفت محيط الجرمق والخردلي والمحمودية.

وتعليقاً على هذه الانتهاكات، كتب الناطق باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي عبر منصة«إكس»، اليوم الخميس: «جيش الدفاع هاجم أهدافاً إرهابية تابعة لحزب الله الإرهابي في لبنان. وأغار على بنى تحتية إرهابية، ومنصّة لإطلاق قذائف صاروخية وفتحة نفق تابعة لحزب الله الإرهابي في منطقة المحمودية».

وقبلها قال ادرعي «خلال ساعات الليلة الماضية وفي إطار نشاط لقوات جيش الدفاع لتدمير بنية تحتية إرهابية تابعة لحزب الله الإرهابي في منطقة بليدا بجنوب لبنان، رصدت القوات مشتبها به داخل المبنى حيث شرعت القوة في الإجراءات الهادفة لتوقيف مشتبه به».

وأضاف «لحظة تحديد تهديد مباشر على أفراد القوة تم إطلاق نار لإزالة التهديد وتمّ رصد إصابة. تفاصيل الحدث قيد التحقيق».

وتابع «المبنى استخدم في الآونة الأخيرة لنشاطات إرهابية لحزب الله الإرهابي تحت غطاء بنية تحتية مدنية. أنه مثال آخر لطريقة عمل حزب الله والتي تعرّض سكان لبنان للخطر مستغلة بشكل سخيف المرافق المدنية لأغراض إرهابية».