لبنان يحترق: أين الـ 3 ملايين دولار وخطّة المكافحة؟

يعيد اشتعال الحرائق الموجع في غابات لبنان المشهد المأساوي السنوي الذي يقضي على مساحات شاسعة من الأحراج والغابات، وسط غياب القدرة الاستراتيجية الكاملة على معالجة هذه الأزمة. ويضاف إليها اعتداءات العدو الإسرائيلي المتعمّدة والممنهجة لإبادة البيئة في لبنان.
 
خلال الأيام والساعات الماضية، اندلعت حرائق قاتلة على امتداد الأراضي اللبنانية من عكار شمالاً إلى بلدات المطلة، الجليلية، تلة حصروت، والزعرورية في إقليم الخروب جنوباً. مشاهد تتكرّر سنوياً، وسط غياب وزارة البيئة والوزارات المعنيّة عن تطبيق الاستراتيجية الوطنية للحدّ من مخاطر حرائق الغابات في لبنان، في الوقت الذي تتآكل فيه  الموارد الطبيعية، وتتضرر المساحات الحرجية الشاسعة.
 
أين ذهبت أموال مكافحة الحرائق؟
 
سؤال يطرحه اللبنانيون الذين يئسوا من الحديث عن الخطط والاستراتيجيات التي لا تُطبق، في حين لا يلمس الشعب اللبناني آليات المراقبة، في ضوء غياب المحاسبة.
 
عاصفة من الردود أثارها بيان وزيرة البيئة د. تمارا الزينخطّة، الذي نشرته على صفحتها على فايسبوك، قائلة فيه إنه "منذ أشهر قليلة أطلقنا مشروع الحدّ من حرائق الغابات في السراي الكبير، وهو مشروع متواضع لا يغطّي سوى ثلاث بقع صغيرة تشهد حرائق متكررة، ولن تبرز مخرجاته المحدودة إلا عند انتهائه بعد ثلاث سنوات". وهو ما استدعى رداً من عدد من الشخصيات البيئية، بدءاً من بول أبي راشد رئيس جمعية الأرض الذي هاجم الوزيرة قائلاً على فايسبوك إن "لبنان يحترق، والمحاسبة غائبة"، مضيفاً أن "وزارة البيئة أعلنت في 15 تمّوز 2025، إطلاق مشروع إدارة مخاطر حرائق الغابات في المناطق الطبيعيّة المعرّضة للخطر، بتمويل من مرفق البيئة العالمي (GEF) بقيمة 3.48 مليون دولار، وبشراكة مع البنك الدولي ومكتب الأمم المتحدة لخدمة المشاريع (UNOPS). لكن بعد أربعة أشهر على إطلاق المشروع، أين ذهبت الأموال؟". وأشار إلى أن "الحرائق اليوم تكشف الحقيقة: لا تجهيز، لا تنسيق، لا استباق، وما يُصرف باسم إدارة المخاطر لا يظهر في الميدان حيث تشتعل النيران"، مطالباً "بشفافيّة كاملة ومحاسبة واضحة."
 
"لو كانت هناك إرادة واضحة لحماية الغابات، لم نكن لنصل إلى الحالة التي نشهدها، ويجب أن يكون هناك خطة للطوارئ، وليس كما قالت الوزيرة حول أنّ النتائج ستظهر خلال السنوات الثلاث المقبلة. وبثلاثة ملايين دولار يمكن تجهيز الكثير". يقول بول أبي راشد في حديث إلى "المدن".
 
ويضيف أن "جمعية الأرض وزعت 200 مخباط على 100 مؤسسة متنوعة، ما بين جمعية وبلدية وكشاف واتحاد بلديات ومحميات. وهذا يعني أن في كل بلدة يوجد على الأقل مخباطان، وهذا ما يساعد على الاستجابة الأولية، علماً أن كلفة هذه المخابيط تبدأ بخمسين دولاراً".
 
بدوره، اعتبر وزير البيئة السابق د. ناصر ياسين في منشور على فايسبوك أن "الوطن يحترق، جنوبًا بفعل الاعتداءات المتواصلة، وشمالًا وجبلًا بفعل الإهمال أو ربما التعمّد لأهداف شتى". ويضيف أن "خطة الطوارئ لوزارة البيئة للوقاية من حرائق الغابات التي طُبّقت خلال الأعوام 2022 إلى 2024 أثبتت فعاليتها؛ إذ خفّضت في تلك الأعوام المساحات المحروقة بدرجة كبيرة، بفضل اعتمادها على دعم الفرق المحلية وجعلها خط الدفاع الأول، وذلك عبر متابعة حثيثة وشبه يومية من فريق عمل الوزارة".
 
واستغرب ياسين قائلاً إن "المؤلم أنّ الأولويات تبدو في تبدل، والموارد في تحوّل عن هدفها الأساس. فالحد من الحرائق لا ينجح إلا بدعم المجتمعات المحلية الأكثر عرضة للمخاطر، وتجهيز الفرق المحلية العاملة في هذه المجتمعات وتطويرها".
 
إضافة إلى ذلك، هاجم الناشط البيئي أنطونيو معيكي وزيرة البيئة قائلاً: "لا يا معالي الوزيرة، هذا البلد يحترق، والناس سئمت الشعارات"، مضيفاً أن "وزارتكم تدير حالياً مشروعاً بقيمة 3.4 ملايين دولار لمواجهة حرائق الغابات، فأين هو هذا المشروع؟ وأين أثره في الميدان؟"، سائلاً: "هل يتحرك المشروع فعلاً قبل أن نخسر المزيد من أحراجنا المهدّدة أساساً بفعل التغير المناخي؟".
 
كيف بدأت الحرائق خلال الأيام الماضية؟
 
في 6 تشرين الثاني، حذر الدكتور جورج متري مدير برنامج الأرض والموارد الطبيعية في جامعة البلمند من ارتفاع مؤشّر اندلاع الحرائق إلى مستواه الأقصى. ونشر خريطة تابعة لمختبر الحرائق التابع للجامعة، دالاً بذلك إلى خطر ازدياد عدد الحرائق.
 
وقال متري متحدثً إلى "المدن أصبح لدينا عوامل تُسهّل تمدّد الحرائق، بدءاً من الرطوبة المتدنية جداً نسبة إلى نهاية فصل الجفاف، وجفاف النبات كلياً في بعض الأماكن، إضافة إلى ارتفاع درجات الحرارة عن معدلاتها الطبيعية، وهو ما أدى إلى ارتفاع مؤشر الحرائق في لبنان إلى درجاته القصوى"، ويقول الدكتور متري، أنه "للأسف كانت الاستجابة لمكافحة الحرائق ضعيفة جداً، ولم تكن على مستوى التوقعات خصوصاً في الساعات الثماني والأربعين الأخيرة".

وفق متري، فإن "الحرائق التي حصلت في عكار شمالاً وإقليم الخروب جنوباً، تنطلق من أسباب بشرية، وليست دائماً بسبب العوامل الطبيعية، والغريب في الأمر أن الحرائق كانت من النوع الشديد الاشتعال، بسبب وجود غطاء حرجي جاف وجاهز للاشتعال، إضافة إلى سرعة الرياح والرطوبة المتدنية، وهو ما ساهم في اشتعال الحرائق وامتدادها على نحوٍ كبير".

طبيعة الحرائق

وقد أفاد الدفاع المدني في بيانٍ له أنّ عناصره أخمدوا منذ الصباح سلسلة حرائق اندلعت في عدد من المناطق اللبنانية، من بينها شدرا، بطحا، رومين، أنصار، وادي جهنم، كفرملكي، قرنايل، والنبي بري في القبيات، مشيراً إلى أن جميعها أُخمدت ودخلت مرحلة التبريد باستثناء الحريق الكبير المستمر في إقليم الخروب، بين بلدات شحيم والمطلة وداريا.

جنوباً، معظم الحرائق التي اندلعت، لها "علاقة مباشرة بالاعتداءات الإسرائيلية واستعمال قذائف عدائية حارقة مع وضع مناخي قائم يساعد على امتداد الحرائق إلى مساحات كبيرة، علماً أن هناك حرائق أخرى في جنوب لبنان، كحريق بكاسين في قضاء جزين، والذي يشكل خطراً على أشجار الصنوبر المعمرة" وفق متري.

ما يجري على الحدود الجنوبية مع العدو الإسرائيلي، برأي متري هو "إبادة بيئية مقصودة، وهناك إبادة بيئية إضافية بسبب الإهمال في المناطق الداخلية، لأننا عملياً نخسر مساحات شاسعة من أراضينا، والتي يصنّف بعضها "حساسة بيئياً كونها مميزة بالتنوّع البيولوجي" يقول متري، مضيفاً أن "هذه الخسارات لا يمكن تعويضها، وستكون هذه الأراضي عرضة لتدهور بيئي كبير خلال فصل الشتاء عبر تدهور التربة وانزياحها".

يوضح متري أن "لبنان يتوقع هطول أمطار، ونتمنى أن تخفف من حدة موسم الحرائق، إلا أننا لا نزال نشعر بالخطر في حال ارتفاع درجات الحرارة وجفاف الطقس، وقد يُستأنف موسم الحرائق من جديد".

بالأرقام: ما كلفة الأضرار؟

موسم الحرائق الذي تزيد قساوته سنة بعد سنة، يُكلّف الدولة اللبنانية ما يزيد عن 125 مليون دولار، وفق المجلس الوطني للبحوث العلمية. وقد اندلع في العام 2025 نحو "666 حريقاً في الغابات، و284 حريقاً طال أشجاراً مثمرة، و6799 حريقاً طال الأعشاب البرية"، وفق النشرة اليومية للمنصة الوطنية للإنذار المبكر، التابعة للمجلس الوطني للبحوث العلمية.

حتى الآن، ووفق جورج متري، فإن "نحو 2000 هكتار هي مساحة الأراضي التي خسرها لبنان بسبب الحرائق هذا العام، وهذا رقم تقديري كوننا ننتظر انتهاء موسم الحرائق، كي نستطيع إحصاء الأرقام على نحوٍ دقيق في مختبر الحرائق في جامعة البلمند وبرنامج الأراضي والموارد الطبيعية"، مشيراً إلى أن "هذا الرقم لن يتضمّن الأضرار التي حصلت خلال الأيام الماضية، نظراً لاستمرار الحرائق في بعض المناطق الجنوبية، ومن المرجح ارتفاع الرقم خلال الفترة المقبلة"، وفق متري

على صعيد عكار، يشير خالد طالب إلى أن "الأسبوع الأخير كان كارثياً على عكار، كونها المنطقة الأكثر كثافة بالغابات، إضافة إلى بدء موسم تشحيل الزيتون وحرقه، وهو ما يجعل الحرائق تنتشر انتشاراً كبيراً". ويضيف طالب أن "حريق زكريت التهم نحو 15 هكتاراً، وحريق عندقت نحو 5 هكتارات، وحريق شدرا نحو 7 هكتارات، وحريق ضهر الليسينة 5 هكتارات وحريق بينو هكتاراً واحداً، وكان من المرجح أن ترتفع هذه الأرقام لولا العناية الآلهية".

وفق طالب، كان من الممكن أن نخسر "نحو 1800 هكتار في حريق شدرا من جهة وادي عودين المطل على عندقت، وهو عملياً امتداد لحريق العام 2021، الذي كان من المتوقع أن يتطور كثيراً".

ووفق متري، تضرر عددٌ كبير من الأشجار المعمرة والحرجية التي احترقت، نظراً لأن "الحرائق التي نشهدها هي من النوع شديد الاشتعال، ومن الصعوبة أن يحصل مجدداً إنبات طبيعي وإعادة نمو طبيعي، والضرر غالباً يترك أثاره على النظام الإيكولوجي للأحراج".

رطوبة وقود منخفضة؟

بالفعل، حرائق عكار كانت الأصعب والأقصى خلال الأيام الماضية، ولا يزال فريق "درب عكار" وفريق الدفاع المدني يعملان باللحم الحي في محاولة لإطفاء الحرائق المشتعلة وتبريدها ومنعها من الاشتعال مرة أخرى. "من المعروف أن حرائق تشرين هي من أشرس الحرائق وأعنفها، ونحن نمر حالياً بأسوأ موسم جفاف منذ سنوات، وقد يبست معظم أحراج السنديان وانخفاض رطوبة الفيول Fuel moisture"، يقول خالد طالب، رئيس فريق "درب عكار" في حديث لـِ "المدن". ويضيف طالب أنه "في سياق الحرائق البرية، يُعتبر مستوى رطوبة الوقود مهمًا لأنه يؤثر على قابلية الاشتعال. كلما كانت الرطوبة منخفضة، زادت قابلية المادة للاشتعال وانتشار النار. لذلك، يستخدم خبراء الحرائق قياسات رطوبة الوقود لتقييم مخاطر الحرائق في المناطق البرية"، إضافة إلى "تخمر المخلفات العضوية المرمية في الأحراج، بعد تساقط المطر الأول، لأن الأرض أصبحت تختزن جيوباً لغاز الميثان، التي تسرع من انتشار الحرائق على نحوٍ كبير".

العام 2024 الأكثر جفافاً

ليس مفاجئاً أن نقول إننا نعاني من موسم جفاف مرعب هذا العام، إلا أن علوم الأرصاد تشير إلى أن "العام 2024 كان العام الأكثر جفافاً منذ 88 عاماً، تاريخ بدء عمل مصلحة الأرصاد الجوية، من حيث كمية المتساقطات وكمية الثلوج التي سقطت العام الماضي، وهذا ما عزز جفاف الأرض، وتأخر موسم الأمطار"، يقول محمد كنج، رئيس قسم التقديرات في مصلحة الأرصاد الجوية في مطار بيروت الدولي، في حديث مع "المدن". ويضيف أن "9 ملم من الأمطار تساقط هذا العام، مقارنة بالمعدل العام 100 ملم في الفترة نفسها من الأعوام السابقة، وقد تساقط نحو 9 ملم في بيروت، و20 ملم في المناطق الشمالية؛ أي بنحو 10-20 في المئة من المعدل العام".

اللافت في الموضوع وفق كنج، أننا "لمسنا ارتفاعاً في درجات الحرارة الليلية، فقد وصلت الحرارة في بيروت ليلاً لحدود 33 درجة مئوية خلال شهر تشرين الثاني"، مشيراً إلى أن "هذه العوامل ساهمت في جفاف الأرض، وكان الهواء شرقياً وجافاً، والرطوبة لم تتجاوز 30 في المئة، وهذه جميعها عوامل مساعدة على اندلاع الحرائق".

لماذا تندلع الحرائق على أبواب فصل الشتاء؟

على جري العادة، تندلع أغلب الحرائق في شهر تشرين الثاني قبل بدء موسم الشتاء، حينما يشعر الناس ومافيات الحطب أن السماء قد تمطر قريباً ولذلك يسعون إلى حرق الغابات من أجل الحصول على الحطب، وهو عبارة عن "نمط خطير جداً بدأنا نشهده من العام 2019، بحيث أنه لا يوجد أية أهمية للحرائق التي تحصل في فصل الصيف، كوننا نستطيع السيطرة عليها، في حين تندلع الحرائق الكبيرة في شهر تشرين الثاني"، يقول خالد طالب، مضيفاً أنه "يتبعها تساقط أمطار غزير، بدءاً من الحرائق الكبيرة التي اندلعت في وادي جهنم في عكار بالسنوات الماضية". وهذا ما يؤكده محمد كنج قائلاً إنه "يجب ألا نلغي من حساباتنا أن الناس تلجأ لإشعال الحرائق في الغابات، كونها وسيلة تدفئة رخيصة".

ما المطلوب حالياً؟

في ظل جنون الحرائق، يجب علينا أن "نكثف عمليات المراقبة والسيطرة على الحرائق المندلعة للحد من انتشارها وتقييم المخاطر التي حصلت في هذا الموسم"، يقول د. جورج متري. ويضيف أنه "يجب علينا الاستفادة من الخبرات التي تراكمت في السنوات الماضية، وخصوصاً خطة الطوارئ التي أعلنتها وزارة البيئة في العام 2022، وقد أوصلت إلى نتائج جيدة جداً لناحية تخفيض المساحات المحروقة، وهي من الدروس التي يجب البناء عليها والاستفادة منها، بدلاً من رميها في سلة المهملات وتجاهلها".

ويشدد متري على "ضرورة الاستعداد لتنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الحرائق المُحدثّة التي أقرها مجلس الوزراء، ناهيك عن المشاريع الممولة من جهات دولية مانحة حول ملف الغطاء الحرجي والحرائق التي يجب أن تصرف أموالها على مستوى المجتمع المحلي، وفي المناطق التي حُدّدت على أنها المناطق الأكثر عرضة للحرائق وفق التقييمات السابقة".

ويرى متري أنه "من الضروري أن نذهب إلى التكافل والتضامن الوطني في ملف الحرائق، ويجب على الجميع أن يكون معنياً بالاستفادة من كامل الطاقات البشرية والعلمية الموجودة في البلد، من الجامعات والمراكز البحثية، ويجب عدم تجاهل هذه الطاقات وأن يفتح كل حدا على حسابو"، خصوصاً أن "الحرائق هي من الكوارث التي يمكن تفاديها وإدارة مخاطرها والتخفيف من خطرها على المجتمعات والسلامة العامة والموارد الطبيعية التي لا تُقدر بثمن في لبنان".

تجدر الإشارة إلى أن 7147 حريقاً اندلع في لبنان من أول العام 2025 لتاريخ 10 تشرين الثاني، وقد أشارت وزيرة البيئة تمارا الزين إلى أن "اسرائيل أحرقت ما يزيد عن 8700 هكتار من الأراضي الزراعية والحرجية، مقارنةً باندلاع 1491 حريقاً (844 في الغابات و647 في الأشجار المثمرة) في العام 2024، وفق تقارير المجلس الوطني للبحوث العلمية.