لبنان يراوح فوق "التركة" الثقيلة... فهل يفوته القطار؟

بدا لبنان وكأنه يتقدّم إلى الخلف أمام الفرصة النادرة للخروج من قبضةِ الحقبةِ القديمةِ من «الدولة المعلّقة» وولوجِ مرحلةٍ جديدةٍ من بوابة «الشرق الجديد» الذي أرستْه تحولاتُ ما بعد «طوفان الأقصى» والحرب الإسرائيلية الثالثة على لبنان وسقوط نظام بشار الأسد في سورية.

فرغم الحركةِ الدؤوبةِ للرئيس اللبناني جوزاف عون باتجاه معاودة الاندماج في العالم العربي، وهو الذي يزور اليوم الأردن تلبيةً لدعوةِ الملك عبدالله الثاني، فإن عقاربَ الساعةِ اللبنانية تراوح فوق «رماديةِ» بيروت في مقاربةِ الملفاتِ - المفاتيح لخزائن الدعم الخارجي السياسي - المالي.
وجاءت الغاراتُ الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت عشية الأضحى المبارك بمثابة «جرسِ إنذارٍ» تذكيريّ من تل أبيب بأن ملف سلاحِ «حزب الله»، الذي يقاربه عون والحكومة بتأنٍّ خشيةَ أن يتحوّل لغماً ينفجر بالسِلم الأهلي، لن يسير «بالسرعةِ» التي يريدها لبنان الرسمي وأن قرارَه المعلَن بِحَصْرِ كل سلاحٍ خارج الدولة بيدها ليس كافياً لتجنيب البلادِ تَجَرُّع كأسِ حربٍ جديدة حتى قبل أن تَخرج من تحت ركامِ 65 يوماً أدارتْ خلالَها إسرائيل «مطحنةَ» الدم والدمار الخريف الماضي.

ورغم الإدانةِ الشديدة اللهجة من عون للغاراتِ الأعنفِ على الضاحية منذ سريان اتفاقِ وقْف الأعمال العدائية (في 27 نوفمبر) واعتبارها «رسالةً للولايات المتحدة وسياساتها ومبادراتها عبر صندوق بريد بيروت وهو ما لن يَرضخ له لبنان أبداً»، فإنّ المناخاتِ التي ولّدتْها اندفاعةُ النار الإسرائيلية تشي بأنّ ما بعدها ليس كما قَبْلها في ظلّ الوقائع الآتية:

- رَسْم وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس - رداً على عون - معادلةَ «لن يكون سلام في بيروت ولا نظام واستقرار في لبنان من دون أمن إسرائيل، وعلى الحكومة اللبنانية نزع سلاح حزب الله ومنْعه من إنتاج مسيّرات (...)».

- أقلُّه «عدم الممانعة» الأميركية للتصعيد الإسرائيلي الخطير الذي أعلنتْ تل أبيب أنها أخطرتْ واشنطن به قبل حصوله بذريعةِ استهداف ما زعمتْ أنه «مواقع إنتاج ومستودعات لتخزين مسيَّرات تابعة للوحدة الجوية في حزب الله (الوحدة 127) في الضاحية الجنوبية وفي جنوب لبنان»، وسط تقارير أفادتْ بأنّ الأجواءَ الأميركيةَ تشير إلى تسليمٍ ضمنيّ بالمنطق الإسرائيلي الذي يربط الانسحابَ من التلال الخمسة على الحافة الحدودية بسحْب سلاح «حزب الله».

وفي هذا الإطار، يسود تَرَقُّبٌ لمَن ستختار إدارةُ الرئيس دونالد ترامب لخلافة الموفدة مورغان أورتاغوس، في ظلّ حديث مصادر في بيروت عن أن السفير الأميركي لدى تركيا توماس برّاك، المعيَّن حديثاً مبعوثاً خاصاً له إلى سورية، قد يزور لبنان قريباً وهو ما لم يتم تأكيده من مسؤولين رسميين في «بلاد الأرز».

- احتواء التوتّر بين الجيش اللبناني ولجنةِ مراقبة اتفاق وقف الأعمال العدائية (الميكانيزم)، بعد تهديدِ الأوّل عقب غارات الخميس بـ«تجميد التعاون مع اللجنة في ما خص الكشْف على المواقع»، وهو ما تجلّى في استجابةِ الجيش الأحد لطلبٍ منها بالكشف على مبنى (مدمّر) في الضاحية الجنوبية يقع ضمن مشروع الكاظم خلف مدرسة الإمام الصادق في حي الليلكي «تحت طائلة استهدافِه من إسرائيل» التي زعمتْ وجود أسلحة وذخائر فيه، لكن من دون العثور على أي شيءٍ في الموقع.

واعتُبرتْ تهدئةُ الأجواء مع اللجنةِ التي يترأسّها جنرالٌ أميركي، وتضم ضباطاً من فرنسا والجيش اللبناني و«اليونيفيل» وإسرائيل، في سياقِ حرص بيروت على الإبقاء على مَهمة هذه «الخماسية» التي تعرّضت يوم الخميس لأقوى اختبارٍ لمدى قدرة الدولتين الراعيتين لها، أي الولايات المتحدة وفرنسا، على لجْم تل أبيب عن خروقها المستمرّة لاتفاق 27 نوفمبر وعن تكريسها بالنار أن «حرية الحركة» وفق تفسيرها للاتفاق لا تقف عند حدود الجنوب الليطاني بل باتت تصل إلى عمق الضاحية الجنوبية.

- التقارير التي صدرت من تل أبيب عن «أن الولايات المتحدة وإسرائيل قرّرتا إنهاء مهمة اليونيفيل في جنوب لبنان» وفق ما أوردته صحيفة «يسرائيل هيوم» على قاعدة أنها لم تنجح منذ قيامها (1978) «في منع تسليح الجماعات الإرهابية في المنطقة»، وأن واشنطن «ترغب في تقليص التكاليف المترتبة على تشغيل هذه القوة، في حين ترى إسرائيل أن التنسيق القائم مع الجيش اللبناني أصبح فعالاً إلى درجة تجعل وجود اليونيفيل غير ضروري»، وأن من المتوقع أن يُتخذ القرار النهائي بهذا الشأن في مجلس الأمن خلال التجديد الدوري للقوة نهاية أغسطس المقبل.

ورغم ما نُقل عن ناطق باسم الخارجية الأميركية لجهة عدم صحّة التقارير عن توافق مع إسرائيل على إنهاء عمليات «اليونيفيل»، فإنّ هذه الأجواء ستتحوّل ضاغطة على ملف التجديد للقبعات الزرق حتى نهاية أغسطس، في ظلّ اعتبار أن هذه «الرسالة» هي بمثابة تلويح للبنان الرسمي بوجوب حزْم أمره في ما خص حصْر السلاح بيد الدولة وعدم الالتزام بأجندة «حزب الله» الذي حدّد 4 أولويات تَسبق أي كلام حول سلاحه (انسحاب إسرائيل، وقف الاعتداءات، إطلاق الأسرى وبدء إعادة الإعمار)، وذلك تحت طائلة ترْك «بلاد الأرز» بلا «الخيمة» الدولية الواسعة التي تشكّلها «اليونيفيل» وتالياً مكشوفة على كل السيناريوهات الإسرائيلية.

وقد حرص الناطق باسم «اليونيفيل أندريا تيننتي، على إعلان أنّ «ليس هناك أي نقاش حالياً في شأن وجود القوة الدولية، وأي بحث في هذا الملف يتم داخل مجلس الأمن»، مشيراً إلى «أنّ وجود قوات إسرائيلية في جنوب لبنان يعرقل انتشار الجيش اللبناني ومهمة المجتمع الدولي تجاه لبنان»، ومشدداً على حرص القوة الدولية على ضمان الأمن والاستقرار في الجنوب.

وأوضح «أن أعداد قوات اليونيفيل لم تتغيّر في الجنوب اللبناني حتى الآن، ومسألة التمويل تبقى من اختصاص مجلس الأمن»، نافياً حصول أي محادثات في شأن تقليص التمويل الدولي لمهمة البعثة.

مُسيّرات «حزب الله»

وفي وقت يُفترض أن يطلق لبنان، الذي يستقبل اليوم الموفد الفرنسي جان - إيف لو دريان، اتصالات مع عواصم القرار الدولية والعربية، في محاولة لعدم تحويل الغارات على الضاحية الجنوبية ضرباتٍ متسلسلة من شأنها إجهاض الموسم السياحي الواعد «في مهده»، وسط خشيةٍ من أن يكون مأزق بنيامين نتنياهو الداخلي والخطر الذي يواجهه ائتلافه الحكومي مدخلاً لـ«هروبٍ إلى الأمام» على جبهة لبنان، التي لم تتصدّر أولويات الاتصال الذي جرى أمس بينه وبين الرئيس دونالد ترامب، كان لافتاً ما ذكرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» أمس عن أن «حزب الله يعمل على تعزيز قدراته العسكرية من خلال تصنيع مستقل لطائرات من دون طيار (مسيّرات)، مستلهِماً التكتيكات التي برزت في الحرب بين روسيا وأوكرانيا»، مستفيداً من «أن الوصول إلى مكوناتها وتجميعها أسهل بكثير، ما يمنح الحزب قدرة على المناورة والتطور العسكري رغم القيود الإقليمية»، لافتة الى «أن إيران توافر مكونات المسيرات والمتفجرات البسيطة بالإضافة إلى المال لحزب الله».

وأشارت الصحيفة الى أنه «في إطار الرد الإسرائيلي، نفّذ سلاح الجو الإسرائيلي الخميس، هجوماً استهدف خمسة مواقع لإنتاج الطائرات المسيّرة تابعة لحزب الله، توزعت بين الضاحية الجنوبية لبيروت وبلدة عين قانا في جنوب لبنان. وقد تم التخطيط لهذه الضربة منذ أشهر عدة (...)».

سلاح المخيمات و«حزب الله»

في موازاة ذلك، تسرَّب الارتيابُ في بيروت من أن يتحوّل ملف سحْب سلاح المخيمات الفلسطينية، الذي يُفترض أن يبدأ تنفيذه منتصف هذا الشهر من 3 مخيمات في العاصمة اللبنانية، بابَ «مناورة» يتشارك فيها «حزب الله» وحركة «حماس» خصوصاً وهي التي تبقى خارج التعهّد الفلسطيني الرسمي بالتزام قرار لبنان ببسط سيادته على كامل أراضيه بقواه الذاتية حصراً.

وبرزت خشيةٌ لدى معارضين للحزب من أن يكون أي فشل -أو إفشال- الدولة اللبنانية في تنفيذ سَحْب السلاح داخل كل المخيمات وعلى كل الفصائل والمجموعات الفلسطينية وغير الفلسطينية، ذريعة للحزب لـ«رَبط المسار» بين هذا الملف وسلاحه على قاعدة «السلاح الفلسطيني أولاً».

وغمز النائب قاسم هاشم (من كتلة الرئيس نبيه بري) من هذه القناة بحديثه الصحافي، عن «أن لبنان لا يمكن أن يضع في أولوياته حصْر السلاح بيد الدولة، كما جاء في خطاب القسَم وبالتالي أن يكون هناك تفاهم حول السلاح اللبناني، الذي يشكل عامل قوة للبلد، في حين يبقى هناك سلاح آخَر (الفلسطيني) من دون معالجة»، في مقابل اعتبار نائب «القوات اللبنانية» فادي كرم «أن محور الممانعة يَعتبر السلاح الفلسطيني في المخيمات خط الدفاع الأول عن سلاحه ودويلته ومشروعه، ولذلك انتفض لمهاجمة الدولة ومشروع مصادرة السلاح الفلسطيني، في حين هو يقدّم هذا السلاح كحجة عند الحديث عن السلاح اللبناني غير الشرعي».