ليس بإمكان أي عابر للساحل السوري أن يمر دون أن يلحظ بقعةً جغرافية تمتد على مساحة 581 كيلومتراً مربعاً، تحمل اسم بانياس، المدينة التي طواها الإهمال في التاريخ الحديث رغم مكانتها العريقة في الأزمنة الغابرة.
منذ عصور عبادة البعول، حظيت بانياس بقدسية خاصة، وظلت شاهداً على صراعات كبرى، كان أبرزها معركة "فانيون" بين السلوقيين والبطالمة، حيث سُفكت الدماء بغزارة على أرضها قبل أن ينتصر السلوقيون ويفرضوا سيطرتهم. ومع مرور الزمن، تحولت المدينة إلى نقطة استراتيجية تحت الحكم الروماني، مستفيدةً من موقعها الساحلي ومينائها البحري الهام، الذي جعلها محطةً رئيسية في شبكة التجارة البحرية للمنطقة.
ورغم هذا التاريخ الحافل، تقف بانياس اليوم على هامش الاهتمام، مدينةً منسية بين صفحات الماضي وإهمال الحاضر... ولعنة الدماء التي تلاحقها.
في موقع استراتيجي مطل على البحر، اختار عبد الحليم خدام، نائب الرئيس حافظ الأسد، إقامة قصره الفخم، الذي يمتد على مساحة 5 آلاف متر مربع، ضمن أرض شاسعة تبلغ 18 دونماً، أُضيفت إليها 10 دونمات من الأملاك البحرية، تم استئجارها بعقد طويل الأمد لمدة 99 عاماً.
ولم يكتفِ خدام بالموقع الفريد لقصره، بل ضمّ إليه مرفأً خاصاً، يعزز من خصوصيته ويمنحه منفذاً بحرياً مباشراً، ليصبح القصر تحفةً معمارية تعكس النفوذ السياسي والاقتصادي الذي تمتّع به الرجل في ذروة سلطته.
القصر الذي عُرض للبيع ب40 مليون دولا بعد انشقاق صاحبه، تمت محاصرته قبل الانشقاق من قبل المواطنين الغاضبين اللذين تجمعوا قبالته محاولين احراقه كنوع من السخط على صمته لما ارتُكب من مجازر بحق أهله من قبل النظام البائد.
ليعيش سكان المدينة مجدداً مشاعر مماثلة منذ ليلة البارحة، بعد أن تحولت مدينة بانياس إلى ساحة لمجازر مروعة، مع دخول أرتال من القوات التابعة لوزارة الدفاع في الإدارة السورية الجديدة، لملاحقة فلول نظام الأسد، وفقاً لتقرير صادر عن المرصد السوري لحقوق الإنسان.
التصعيد، الذي وصفه المرصد بالخطير ضد المدنيين، يأتي في ظل تطورات متسارعة على الأرض، وسط مخاوف متزايدة من انتهاكات جسيمة بحق السكان، ما يثير تساؤلات حول طبيعة العمليات العسكرية وأهدافها الحقيقية.
في تطور دامٍ، كشف المرصد السوري لحقوق الإنسان عن وقوع أكبر حصيلة للضحايا في مدينة بانياس بريف طرطوس، حيث قُتل 164 مدنياً خلال هجوم مكثف وإعدامات جماعية بالرصاص.
ومع تجدد العنف صباح اليوم، تصاعدت المشاهد المروعة التي تناقلها الأهالي عبر بث مباشرة، تضمنت نداءات استغاثة، حيث أكد المدنيون أنهم ليسوا من فلول النظام، مستجدين التدخل لإنقاذهم. إحدى الطفلات، بصوت مرتجف، قالت: "بعرف رح نموت"، بينما طالب آخرون بعدم ترك دمائهم تذهب هدراً، داعين للدعاء لهم في حال قُتلوا.
ورغم وعود الرئيس الانتقالي أحمد الشرع بمحاسبة الفاعلين، إلا أن عمليات القتل تخطت ما وُصف بتفلّت الفصائل، ليتحول إلى نهج ممنهج قائم على قاعدة "تربية الناس بالناس"، وسط تساؤلات متزايدة حول الجهات المسؤولة وصمت المجتمع الدولي عن هذه الفظائع.
يستحضر المشهد الراهن في بانياس، نسخةً مأساوية من مجازر ماضية ارتُكبت خلال حقبة النظام البائد، وعلى رأسها مجزرة البيضا، التي نفذتها قوات بشار الأسد عام 2013، تاركةً وراءها 248 ضحية، وفقاً لمنظمة هيومن رايتس ووتش.
شهادات الناجين من المجزرة لا تزال شاهدةً على وحشية تلك الحقبة، حيث يروي بعضهم كيف أعدمت قوات النظام وأجهزته الأمنية، إلى جانب ميليشياته المعروفة محلياً بـ"الشبيحة"، أهالي القرية بدم بارد، قبل أن تحرق جثثهم أو تخفيها، في محاولة لطمس آثار الجريمة.
اليوم، ومع تصاعد الأحداث الدامية في بانياس، يطالب الأهالي والحكومة الجديدة بمحاسبة مرتكبي تلك الفظائع، مؤكدين أن العدالة وحدها قادرة على طي صفحة الماضي دون أن تُمحى من الذاكرة.
يشكل العلويون نحو 9% من سكان سوريا ذات الغالبية السنية، لكن دورهم تجاوز نسبتهم العددية ليترك بصمته بوضوح في المشهد السياسي والأمني للبلاد، خصوصاً خلال حكم عائلة الأسد الذي امتد لأكثر من خمسة عقود.
فمنذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة عام 1970، تزايد نفوذ الطائفة داخل المؤسسات العسكرية والأمنية، حيث اعتمد النظام على الأجهزة الأمنية كأداة رئيسية لترسيخ سلطته، مستخدماً الاعتقال والتعذيب لقمع أي شكل من أشكال المعارضة.