لمَ كل هذا التَّحامل على العسكريين المُتقاعدين؟

غريبٌ أمر الزمرة الحاكمة في لبنان، في مقاربتها للمعضلات الأساسيَّة التي تواجهها البلاد، إذ لم يكفها تخليها عن أدنى واجباتها وفشلها الذريع في مقاربتها للاستحقاقات الوطنيَّة والتَّحديات المصيريَّة، وفي تعاطيها مع الأزمات الاقتصادية والمالية والنقدية والتربويَّة والأمنيَّة والاجتماعيَّة الحالَّة بالوطن والشعب، لتتسبَّب بسياساتها الترقيعيَّة بمزيدٍ من الأزمات السِّياسيَّة والمَعيشيَّة التي فاقت كل التَّوقُّعات.

لم يكتفِ أهلُ السُّلطةِ بتخلُّفِهم عن القيام بأدنى واجباتهم الدستورية والوظيفيَّة وفي طليعتها امتناعُهم عن إنجاز الاستحقاقات الدستوريَّة في مواعيدها، وتقويضهم لمُرتكزاتِ الإستقرار السياسي في الدولة، وتسببهم في اضطرابات في أداء السلطتين التَّشريعيَّةِ والتنفيذيَّة والتَّدخُّلِ في أعمال السُّلطةِ التَّشريعيَّة، ليستكملوا مسيرتهم السياسيَّة بتقويضِ القِطاع العام بتجويع العاملين فيه، وتعطيل مبدأ تداولهم على المَراكز الوظيفيَّة، واعتمادِ منهجيَّةِ التَّعطيلِ الممنهجِ للإداراتِ وللمؤسَّساتِ والتَّمديد والتَّجديد لمن يتولى إدارتها، والإتيان بالمحاسيب، وإبعاد أصحاب الكفاءة، وتجاوزِ كُلِّ الاعتباراتِ الوظيفية الهرميَّة.

تعي الزُّمرة الحاكمةُ أنه لم يبقَ من مؤسساتِ الدَّولة سوى أشلاء رثَّة، وإن ما يحافظ على ما تبقى منها هو تماسُك الأجهزةِ العسكريَّةِ والأمنيَّة، وروحيَّةِ الولاء الوطني المتجذرة في ضبَّاطها ورتبائها وأفرادها. ولولا هذه الأجهزة لانفرط العقد الوطني، وأضحينا أمام كانتونات طائفيَّة ومذهبيَّة ومناطقيَّة كرَّسها واقعيًّا أداء رجال السِّياسة خلال العقدين الأخيرين.

إهمالُ أهل السُّلطةِ للقطاع العام في لبنان، وانشغالهم عنه في مصالحهم الخاصَّة وجمعِ الثَّرواتِ، كما آثروا استرضاء بعضِ القطاعاتِ الوظيفيَّةِ على حسابِ باقي القطاعات، وتغافلوا كليًّاُ عن معاناتِ باقي الموظَّفين، ولم يكترثوا إلى انهيار القيمة الشرائيَّة لرواتبهم، الأمر الذي أدّى إلى امتناع العديد منهم عن الحضور إلى مراكز عملهم والقيام بالمهام الملقاة على عاتقهم لعلَّةِ عدمِ كفايةِ رواتبهم لتلبيةِ احتياجاتهم المعيشيَّة. وحدهم العسكريون بقوا مثابرين على حضورهم وإنتاجيَّتهم رغم بعد المسافات بين منازلهم ومراكز خدمتهم.

واجه المسؤولون في الدَّولة، جرياً على عادتهم وافتقادهم لروحِ المبادرةِ، الأزماتِ الوطنيَّةِ بمقارباتٍ ترقيعيَّةٍ تقوم على ردَّاتِ فعل غير مدروسة، بهذه الروحيَّة تعاملوا مع الموظَّفين، لذا جاءت الحلول المعتمدةُ حيال معضلةِ الرواتبِ في القطاع العام مجتزأة وغير متوازنة وتفتقرُ إلى روحيَّةِ العدالة والإنصاف، كونها توخَّت إرضاءَ خَواطِرِ العاملين في بعضِ القطاعات الوظيفيِّةِ المؤثَّرة والقادرَةِ على شَلِّ وتعطيلِ بعضِ المرافق العامَّة؛ فأغدقوا العطاءات الماليَّةِ على العاملين فيها وحرموا العاملين في قِطاعاتٍ وظيفيَّةٍ أخرى، فكرَّسوا بذلك التَّفاوت الطبقي والتمييز القطاعي بين مختلف الأسلاك الوظيفيَّةِ التَّابعةِ للقطاع العام (سلك قضائي وسلك دبلوماسي، وموظفي الإدارة العامَّة، أساتذة جامعيين، أساتذة التعليم ما قبل الجامعي، متعاقدين ومُستعان بهم... الخ، واشتدّ عصبُ العاملين في كل قطاع وظيفي، وبدأ العاملون في كل سلك أو قطاع ينفردون في الاحتجاجات والإضرابات وحصر مطالبهم بما يناسبهم، وكانت الإستجاباتُ الحكوميَّةُ على قدر قوَّةِ كل من تلك المكونات على التَّعطيل وشلِّ المرافقِ العامَّة، رَغبةً منهم في تقطيعِ الوقت.

وحدهم العسكريون والأمنيون لم يلجأوا إلى الاحتجاجات، ولا الاعتصامات ولا الإضرابات، معولين على أخلاقيَّاتِ المسؤولين، لذا استمروا في أداء واجباتهم الوظيفيَّةِ بصمت، رغم اكتفاء حكومة تصريف الأعمال بتخصيصهم بفتات ما تحصَّل عليه باقي الأسلاك من عطاءاتٍ ماليَّة، الأمرُ الذي دفعهم مكرهين على قبول مُساعدات عينيَّة وماليَّة من دولٍ شقيقة وصَديقة، وسُمح لبَعضِهم العمل خارج أوقات الخدمةِ ولو بأعمال لا تليق بالعسكريين، ورغم اقتناع قياداتِهم أن تلك الأمور تتعارضُ مع مقتضياتِ الحِفاظِ على سيادَةِ الدَّولةِ ومعنوياتِ العَسكريين والأمنيين وولائهم للوطن.

وإذا كان عبء الأزماتِ الاقتصاديَّة والماليَّة والنَّقدية جاء ثقيلاً على العسكريين إلَّا أن وقعه الأثقل كان على المتقاعدين منهم، وخاصَّةً بعد تعمُّدِ حكومة تصريفِ الأعمال استثنائهم من العطاءات الماليَّة أو تخصيصهم بنذرٍ قليل مقارنةً مع ما خُصِّصَ لباقي الأسلاك أو لزملائهم في الخدمة الفعليَّة، الأمر الذي جعلهم يفتقدون لأدنى المقومات الماليَّة التي تسمح لهم تلبيةَ احتياجاتهم المعيشيَّةِ اليوميَّةِ والضَّرورات الصُّحيَّةِ المُلحَّة؛ الأمر الذي دفعهم مكرهين للتَّحرُّكِ علَّهم يوصلونَ أصواتهم ومُعاناتهم لمن صُمَّت آذانُهم عن سماع مناشداتهم ومطالبهم المُحقَّة.

منذ التَّحرُّك الأول للمتقاعدين سعى من هم في السُّلطةِ إلى شيطنةِ حراكهم، كما إلى تكريس الفرقةِ بينهم وبين زملائهم في الخدمةِ الفعليَّة، مستفيدين من النَّزعةِ الاستفراديَّةِ وحبِّ الظهور لدى بعضِ الضُّباط، كما سعوا إلى رمي بذور التَّفرقة ما بين الضُّباط من جهةٍ والرتباء من جهةٍ أخرى، وكذلك إلى إحداث شرخٍ ما بين رابطةِ قدماء القوى المُسلَّحةِ والحراك الميداني على أرض الواقع ونجحوا في ذلك. وكاد صراع الديوك الذي بدا خفيًّا بين بعض الضُّباط العامين المتقاعدين والمُشاركين في النَّشاطات الاحتجاجيَّةِ أن يقوِّضَ حراك العسكريين المتقاعدين لولا شدَّة المُعاناة الحياتيَّة التي يعاني منها معظمهم، والتي لم تزل تشكِّلُ الوثاق الذي يجمع في ما بين المتقاعدين؛ وزاد في الأمرِ بلَّةً تخلي الوزيرين المَعنيين في الدِّفاع عن حقوقِ العسكريين والمُتقاعدين منهم واللذين بديا وكأنهما غير آبهين بمعاناة من يُفترض بهم الدفاع عنهم.

برَّرت السُّلطةَ عدم إنصافها للعسكريين عامَّةً وللمتقاعدين منهم على وجه الخصوص، بأن عددهم كبير مقارنةً مع أعداد باقي الأسلاك الوظيفيَّة، وكأن المتطلبات المعيشيَّة تقف على عدد كل فئة من فئات المُجتمع، وأن الرفاهيةَ كما الحق في العيش الكريم حكراً على كبارِ المسؤولين وأصحاب النُّفوذِ في الدَّولةِ بالإضافةِ إلى الموظَّفين المحظيين وأولئك العاملين في المرافق العامَّة والإدارات والمؤسَّسات العامَّةِ التي توفِّرُ الخدماتِ العامَّةِ المُلِحَّةِ للمواطنين والتي تخشى الحكومة تعطيلها.

لم يستطع العسكريون المتقاعدون إقناع الطَّبقةِ السياسيَّةِ الحاكمةِ بضرورةِ إنصافهم على الرَّغمِ من إقرار الجميعِ بأحقيَّةِ مطالبِهم إلَّا أن المسؤولين كانوا يتملصون من الإستجابةِ لمطالبهم. وتعزى إخفاقاتُ العسكريين المتقاعدين في تحقيق مطالبهم لأسبابٍ عِدَّة، أولها: عدم وجود ممثلين عنهم في الندوة البرلمانيَّة، واعتمادُ الطَّبقةِ السياسيَّةِ النِّفاقَ منهجاً للتَّغطية على إخفاقاتها وتمرير مشاريعها المشبوهة، ولا غلو في القول: أن المنافق إن حدَّث كذَّب، وإن وعد أخلف، وإن اؤتُمِنَ خان؛ هذا النفاق أوقع العسكريين المُتقاعدين أسرى وعود عرقوبيَّة والنكول عنها؛ ويُضافُ إلى ذلك انكفاءُ رابطة قدامى القِوى المُسلَّحة عن القيام بواجباتها لجهةِ الدِّفاع عن حقوقِ العسكريين المُتقاعدين، وفشلِ الأخيرين أنفسهم في لمّ شملهم والانضواء تحت هيئة تمثيليَّةٍ موحَّدة تجمعُ في ما بينهم وتوحدِ كلمتهم ومواقفهم تجاه مَطالبهم المُحقَّة.

والعجبُ العُجابُ من إجماع حكومة تصريف أعمال، مُنقسِمةٍ على نفسِها تجاه القضايا الوطنيَّة الجُوهريَّةِ، على تهميش العسكريين والمُتقاعدين من جميع الأسلاك الوظيفيَّةِ والافتئاتِ على حقوقهم، والتعامل معهم وكأنهم عبءٍ على خزينةِ الدَّولة، ولا تخجل من تَنكُّرها لعطاءاتهم وتضحياتِهم، ولا تنفك تمعنُ في إذلالهم بحرمانهم من أدنى حقوقهم المَعيشيَّة والطبيَّة. ويبدو أن العدوى انتقلت من الحُكومةِ إلى اللجان التي شُكَّلتها لدراسَةِ الأوضاع الماليَّة للعاملين في القِطاع العام، إذ بدلاً من اعتماد معيار موحَّد تجاه جميع الموظَّفين وفي مختلف القطاعات الوظيفيَّة، والعمل على إعادة النَّظر في سلسلةِ الرتب والرواتب على ضوء المُستجدات التي طرأت على القيمَةِ الشِّرائيَّةِ للعِملة الوطنيَّة والتَّضخُّم وغلاء المَعيشَة، لم يفته اللجنة تكريس البدعِ الحكوميَّةِ التي شهدتها المقارباتُ الحكوميَّةُ السَّابقة، كما تلك المُصطلحات التي شكَّلت سابقةً على المُستوى الدَّولي، بتذييل راتب كل موظَّف بباقةِ إضافيَّة مُساعدة اجتماعيَّة، وبدل حضور وبدل إنتاجيَّة وبدل مُثابرة... وغيرها من المُسميات التي اعتُمدت لتواري النُّصوص القانونيَّة وتكريس أعرافٍ تُميِّزُ بين العاملين في القِطاع العام، وتهميشِ المُتقاعدين والافتئات عليهم.

يتذرّع بعض المسؤولين بأن إيرادات الدَّولة غير كافية لإنصاف العسكريين والمتقاعدين منهم على وجه الخصوص، وفي الوقت عينه يعملون على توزيعِها على بعضِ القطاعاتِ الوظيفية المَحظيَّة، ويدَّعونَ أن تخصيصَ المُتقاعدين ببعضِ المُساعداتِ أسوة بباقي الموظَّفين قد يسرِّعُ وتيرةَ الانهيار المالي والنقدي، ويتجاهلون أنهم هم أنفسهم من تسبَّبَ بكل الانهيار الذي نشهده، والذي يردُّ لسياساتهم الخاطئة التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه، ولتبديدهم الثروات الطبيعيَّةِ الوطنيَّة، وتبذيرهم للأموال العامَّة واختلاسها، ولتبديدهم أموال المودعين، وتفريغهم لخزائن المصارف من العملات الصَّعبةِ بتحويل أموالهم من العِملةِ الوطنيَّةِ إلى عُملاتٍ صعبة، ومن ثمَّ تهريبها للخارج، وإن كان لا بدَّ من تحميل أحد وزر الإنهيار فهم حصراً من ينبغي مُساءلتهم وملاحقتَهم عن ارتكاباتهم الشَّنيعة المُجرَّمة.

ما كان ليصيبَ العسكريين عامَّةً (في الخدمة الفعلية أم في التقاعد) ما أصابهم، لولا السُّلوكيَّات المُذلَّةِ لبعضِ المتزلفين والمتملقين من بني جلدتهم ابتغاءً لمنصب أو استجداءً لمنفعةٍ ماديَّة، فتحوَّلوا من حماةٍ للشَّخصيَّات الأكثر عرضَةً للمخاطر الأمنيَّة وحمايَة المؤسَّسات والأملاك العامَّة، إلى مجرَّد مرافقين شخصيين يعملون لخدمةِ جلاديهم وناهبي ثرواتِ وطنهم ومبذري المال العام، وحمَّالي شنط لعائلاتهم ومُعقبي مُعاملات لشركاتهم. إلَّا أن أكثر ما يُضيمُ العسكريين المتقاعدين الشُّرفاء هي خساسةُ الطاعنين في الظَّهرِ من قليلي الأصلِ الذين في الوقتِ الذي يتآمرون فيه على العسكريين يَحظونَ بحِمايَتهم.

أيها السِّياسيون انصِفوا المُتقاعدين قبل فوات الأوان، ألم يكفكم أنكم حرمتوهم من تعويضات نهاية الخدمَة، كما من رواتبهم ومدَّخراتِ عيالهم، واعلموا أنكم بمغالاتكم في التَّطاول عليهم وحرمانهم من متطلبات العيش الكريم والإصرار على عدمِ إنصافِهِم والتَّنكر لتضحياتهم تدفعونهم للخروج عن طوعهم وطباعهم ومناقبيَّتهم والانتفاضِ دفاعاً عن حقوقهم، ولن تنفع كل المُحاولات القمعيَّةِ في ثنيهم عن النِّضالِ صوناً لكرامتهم.