المصدر: النهار
الكاتب: ابراهيم بيرم
الخميس 21 آذار 2024 08:18:21
الأكيد أن عند دولة الإمارات العربية المتحدة أكثر من سبب وداعٍ يدفعها الى فتح أبوابها لاستقبال أحد أبرز القيادات الأمنية في "حزب الله" وفيق صفا أخيراً لتستكمل معه كما صار معلناً البحث في إغلاق ملف آخر الموقوفين اللبنانيين الذين يقضون أحكاماً بالسجن أصدرتها بحقهم محاكم الدولة، فهي دولة لها شأنها وموقعها الريادي في محيطها،كما لها سياساتها الواعية والراسخة وقضاؤها العريق.
ولكن الذي بدا مثيراً لموجة التساؤلات هو أن تقرر قيادة الحزب في هذا التوقيت بالذات إيفاد رجل المهمات الصعبة في الأمانة العامة للحزب ورجل الثقة عند السيد حسن نصرالله الى دولة الإمارات على متن طائرة خاصة قدمت خصيصاً الى مطار رفيق الحريري لتقله الى أبو ظبي. وبناءً على ذلك لم يكن مقنعاً كثيراً سعي أوساط إعلامية وسياسية على صلة وثيقة بالحزب واعتادت النطق بلسانه، التقليل من شأن هذه الزيارة وعزلها عن مضامينها العميقة في محاولة لنزع الصفة الاستثنائية عنها وأنها على أي وجه ستكون فاتحة لمحطة مختلفة في مسار علاقات الحزب المتوترة على الدوام بدول الخليج خصوصاً لأن غالبية هذه الدول سبق لها أن أدرجته على لائحة "الجهات الإرهابية" التي تحظر أي شكل من أشكال التعامل معه.
وعلى نحو أكثر دقة، لم تقدم إحاطة شاملة ودقيقة مسارعة أولئك المقربين من الحزب الى حصر هذا الحدث المفاجئ في دائرة أنها زيارة لغرض محدود وحصري هو تتويج مسار مفاوضات بعيدة عن الأضواء مستمرة منذ أكثر من ستة أشهر لتأمين الإفراج عن اللبنانيين السبعة الموقوفين إنفاذاً لأحكام تراوح بين عشر سنوات والمؤبد.
فالمعلوم أن المدير العام السابق للأمن العام اللواء عباس إبراهيم كان قد شرع قبيل تقاعده في رحلة اتصالات ومساعٍ مع السلطات المعنية في الإمارات بهذا الخصوص وأدّت حينها الى إطلاق عدد من هؤلاء المحكومين. وكان المؤمل أن يواصل إبراهيم تلك المهمة لكي تبلغ خواتيمها السعيدة فيطوى ذلك الملف نهائياً، بناءً على اعتبارين:
الأول أنه (إبراهيم) نسج علاقة جيدة مع المسؤولين في الإمارات المتحدة خصوصاً أنه صار مصدر ثقة عندهم.
الثاني أن الرجل رغم تقاعده القانوني لم يتقاعد عن الحراك والفعل بانياً على تجربة رائدة وهو قدّم نفسه متطوّعاً لاستكمال ما بدأه مع المسؤولين في تلك الدولة.
وبناءً على هذه الوقائع كان منطقياً أن تبدأ رحلة البحث عن الأسباب الجوهرية التي حدت بالحزب في هذه المرحلة الدقيقة، نحو هذه النقلة النوعية والمتطورة في مسار علاقاته العربية ولا سيما أنه قد بات معلوماً أن هذا التحوّل من جانب الحزب لم يكن مفاجئاً ودراماتيكياً وفق الكثير من الشواهد بل كان ثمرة جهد تراكمي، نظراً الى مرحلة طويلة من انعدام الثقة حكمت علاقته بتلك العواصم وهو الذي فتح معها أبواب المواجهة وشنّ في وجهها حملات إعلامية وسياسية شعواء خصوصاً مع بدء أحداث اليمن، فكان أن ردّت تلك الدول بإشهار القطيعة مع لبنان وإنهاء كل أشكال التعاون معه بل وعزله لاحقاً.
ثمة ولا ريب من يدرج توجّه الحزب الانفتاحي تجاه عواصم ناصبها القطيعة والعداء بأنه استتباع لانفراج في العلاقات بين دول الخليج قاطبة ومرجعية الحزب أي طهران، تبدّى في إعادة السفراء والبعثات الديبلوماسية من جهة وفي وقف الحملات الإعلامية المتبادلة على مدى أعوام. ولكن تلك القرءاة على بلاغتها ليست السبب الحصري الذي يقف وراء الأداء الجديد للحزب، كما ليس السبب الحصري ما قيل بأن الحزب يريد "فقط" تأمين إطلاق المسجونين اللبنانيين السبعة خصوصاً أن تهمة أغلبهم نسج علاقات بالحزب.
في مناخات الحزب من يورد أسباباً إضافية أكثر عمقاً وبعداً وفي مقدمها أن مراده من هذه الخطوة تجسيد انعطافة سياسية مفتاحها الأساس الانفتاح على عواصم خليجية يعمل بدأب وجهد على تكريسها أمراً واقعاً على جناح السرعة. فثمة مقربون من الحزب يؤكدون أنه بات في الاونة الأخيرة يستشعر جدياً حجم التداعيات الموجعة التي بدأت تلقي بأثقالها على المشهد الجنوبي خصوصاً واللبناني عموماً من جراء إطالة أمد المواجهات التي يخوض غمارها على طول الحدود الجنوبية خصوصاً أن النيران الإسرائيلية قد ألحقت الأذى والضرر البالغين بنحو 49 بلدة وقرية حدودية وأدت الى تهجير ما يقرب من مئة ألف مواطن من منازلهم مضافاً الى ذلك العدد من الضحايا الذي فاق 300 ضحية.
لذا كان مطلوباً من الحزب المبادرة الى أي خطوات وتدابير تحمل في طيّاتها وعداً بالانفراج والتبريد والتهدئة وفك حلقات المكاره التي تحيق بالجنوبيين وتترك تداعياتها على كل الوطن. وبناءً على ذلك كان الحزب مبادراً عند أول إشارة أتته فأسقط كل ما في مخزونه من تحفظات وذهب الى أبو ظبي سعياً الى تحسين علاقاته مع عواصم الخليج من جهة ولبث جرعة من الطمأنينة في بيئته وعند جمهوره القلق من جهة أخرى ولكي يظهر في مظهر الحريص على أمنهم الاجتماعي وسعيهم الاقتصادي.
وثمة من المقربين من الحزب من يكشف عن أنه سمع منه ما يؤكد أن الحزب كان يتمنى أن لا يطول أمد المواجهات التي دخلها تحت شعار إسناد غزة ودعم فصائلها المقاومة على هذا النحو لكي يكون أمد معاناة الجنوبيين أقصر وأقل كلفة.
وبهذا المعنى فإن مبادرة الحزب تجاه الإمارات المتحدة هي خطوة في سياق خطوات شاء الحزب الشروع بها للتعويض عن "صورة الجالب دوماً للمشاكل والمولّد للمآسي" خصوصاً أن الحزب عمل طويلاً على إقناع هؤلاء بأن إسرائيل لن تتجرّأ على العودة ثانية الى نهجها العدواني على الجنوب ما دام سلاحه موجوداً ومشهوراً.
وبالعموم فإن حزباً يواجه ما يواجهه الحزب خلال تجربته الميدانية والسياسية المرافقة لنشوئه وظهوره على مسرح المقاومة منذ عام 1982 لا بد من أن يكون وضع في حساباته حلول يومٍ تصاغ فيه صفقات وتسويات كبرى في هذا الإقليم المشتعل منذ نحو ستة أشهر، لذا من المنطقي أن يبدأ برحلة البحث عمّا يجعله حاضراً ولاعباً وليس مستبعداً ومعزولاً. وبالإجمال خطوة "حزب الله" الأخيرة تشي بأنه انطلق في الخطوة الأولى للبحث عن صورة مغايرة له، هي بالطبع صورة المطمئن.