المصدر: أساس ميديا
الكاتب: عبادة اللدن
الأربعاء 26 تشرين الثاني 2025 08:35:02
قُتِلت في شخص أبي علي الطبطبائي ثلاث رمزيّات:
1- رمزيّة قائد من أبٍ إيرانيّ وأمّ لبنانيّة يعيد ترميم قدرات “الحزب” بإشراف مباشر من الحرس الثوريّ.
2- رمزيّة عسكريّ مخضرم تجسّد فيه الدور الخارجيّ لـ”الحزب” في حروب الوكالة، لا سيما في اليمن وسوريا.
3- رمزيّة القائد الباقي من الرعيل العسكريّ المؤسّس لـ”الحزب”.
برحيله يطوي “الحزب” صفحة الجيل المؤسّس في المجلس الجهاديّ، ويحيل إلى التاريخ صورته كقوّة نخبة إيرانيّة ذات أدوار إقليميّة متقدّمة ومتنقّلة من ساحٍ إلى ساح، وتُطرح علامة استفهام كبيرة عن مستقبل التنظيم ودور السلاح في الداخل، وعلامة استفهام أكبر عن قدرته على إنتاج تسوية داخليّة تلائم حاله المستجدّ.
استدعى اغتيال السيّد حسن نصرالله والسيّد هاشم صفيّ الدين والقيادة العسكريّة لـ”الحزب” العام الماضي، انخراطاً مباشراً للحرس الثوريّ في إدارة شؤون “الحزب” العسكريّة والتنظيميّة. تولّي الطبطبائي قيادة الأركان في مرحلة إعادة بناء القدرات تعبير رمزيّ عن العودة إلى سيرة التأسيس المبكرة.
“الحزب” كلّه، كما الطبطبائي، من أبٍ إيرانيّ وأمّ لبنانيّة، وهذا واضحٌ في تاريخ التأسيس الذي يرويه الأمين العامّ الحاليّ الشيخ قاسم في كتابه “حزب الله: المنهج، التجربة، المستقبل”، بدءاً من اجتماع السفارة الإيرانيّة في دمشق عام 1982، وصولاً إلى “وثيقة التسعة” عام 1984 و”الرسالة المفتوحة” في شباط 1985، التي كانت بمنزلة الميثاق التأسيسيّ لـ”الحزب”.
صلاحيّات الوليّ الفقيه
ما يزال منهج الحزب السياسيّ والدينيّ يقوم حتّى اليوم على أنّ صلاحيّات الوليّ الفقيه في مجتمع “الحزب” مطابقة “لصلاحيّات النبيّ (ص) وصلاحيّات أمير المؤمنين”. كلّ ما يُقال في الأدبيّات العامّة عن استقلاليّة “الحزب” في الإطار اللبنانيّ لا يعدو أن يكون هامشاً من “الصلاحيّات الواسعة والتفويض” من الوليّ الفقيه، “ضمن هامش ذاتيّ وخاصّ” (ط 7، ص 88).
غير أنّ ما يصطَلح عليه في لبنان بقرار الحرب والسلم، هو في عقيدة “الحزب” قرار “الجهاد”، وهو “مرتبط بالوليّ الفقيه” (ص 64)، ولا يمكن التفويض فيه. لذلك مصير السلاح في لبنان يعود القرار فيه إلى شخص واحد في إيران.
لن يتغيّر شيءٌ من هذا في البنية العسكريّة والعقائديّة والتنظيميّة، بل إنّ خسارة حلقات الربط التاريخيّة في الجانبين ستتطلّب بالضرورة انخراطاً أكبر للحرس الثوريّ في إدارة “الحزب”، وخصوصاً أنّ احتياج مؤسّساته إلى التمويل يفوق احتياجه إليه في أيّ وقتٍ مضى. على أنّ التحدّي الأكبر الذي ظهر منذ رحيل نصرالله والصفّ الأوّل من القادة، وسيظهر بشكل أكبر بعد اغتيال الطبطبائي، يكمن في إعادة بناء منظومة اتّخاذ القرار داخل “الحزب”.
الطبطبائي كان الرجل الأوّل في “الحزب”، وربّما الأخير من رعيل القادة المؤسّسين، من أمثال عماد مغنيّة ومصطفى بدر الدين وفؤاد شكر وإبراهيم عقيل. أمّا الأمين العامّ الحاليّ فقد كان خارج دائرة القرار قبل ذلك، ولم يكن منخرطاً في القرارين السياسيّ والعسكريّ. لا أدلّ على ذلك من الرواية التي حكاها بنفسه عن آخر اتّصال بينه وبين نصرالله قبل ستّة أيّام من اغتيال الأخير، والتي يظهر من تفاصيلها أنّه لم يكن على تواصل مع القيادتين السياسيّة والعسكريّة في أكثر مراحل التفاوض حرجاً لوقف إطلاق النار.
ليست صعوبة إنتاج ردٍّ على الاغتيال الأخير سوى مظهرٍ من مظاهر ذلك التحدّي، وخصوصاً أنّه يأتي في مرحلة انكشف فيها انهيار الردع وإطلاق يد إسرائيل في الضرب بلا عواقب. وإن تكن هذه المرحلة قد بدأت سابقاً، فإنّ “الحزب” كان يعلّل السكوت على الضربات بأنّه أوكل الردّ إلى الدولة. لا يجدي مثل هذا التبرير عندما يكون المستهدَف في قلب الضاحية الرجل الأوّل في “الحزب”.
هذه المرّة أضاف “الحزب” مفردة جديدة إلى خطابه، إذ قال إنّه “ينسّق مع الدولة” في حسابات الردّ، بتعبير نائب رئيس المجلس السياسيّ محمود قماطي. ثمّ خرج رئيس المجلس التنفيذيّ الشيخ علي دعموش ليصوّر الاغتيال وكأنّه من نتائج “تنازلات الدولة” غير المجدية، متحاشياً الحديث عن الردّ، شكلاً وتوقيتاً.
لا قدرة على التّسوية
ليس ذلك سوى بداية أعراض “التغريز” في الرمال المتحرّكة. لا هو قادر على الإقدام نحو المواجهة، ولا هو قادر على التراجع نحو التسوية مع الداخل. ولهذا أسبابه:
1- ليست إيران نفسها في منأى عن المأزق. فهي ليست في وضعٍ يتيح لها تصعيد المواجهة. بل إنّها تبحث عن سبل التواصل مع الإدارة الأميركيّة. وربّما تجد المنفذ في مبادرة وليّ العهد السعوديّ الأمير محمّد بن سلمان للتوسّط في الملفّ النوويّ خلال لقائه بالرئيس الأميركيّ دونالد ترامب.
2- لا يبدو أنّ كثيرين في “الحزب” يتقبّلون الواقع الجديد. إذا كان هؤلاء يرون بأمّ العين شواهد الضعف وقلّة الحيلة في مواجهة إسرائيل، فإنّهم ما يزالون يرون في السلاح ما يكفي لتوفير فائض قوّة في المعادلة الداخليّة، كما كان الحال في العقدين الماضيَين.
3- لا يقدّم بعض الداخل التسهيلات لإنزال “الحزب” عن الشجرة، بل إنّه يرى الفرصة ملائمة لتشديد الضغوط على “الحزب” لئلّا تُتاح له الفرصة لالتقاط أنفاسه.
مبادرة الرّئيس عون
أضاف اغتيال رجل “الحزب” الأوّل معطى جديداً بعد ساعاتٍ من إطلاق رئيس الجمهوريّة جوزف عون مبادرته للخروج من معضلتَي الاعتداءات الإسرائيليّة والضغوط الدوليّة لنزع سلاح “الحزب”. تتضمّن المبادرة الانسحاب الإسرائيليّ وتسليم النقاط المحتلّة إلى الجيش اللبنانيّ، تكليف اللجنة الخماسيّة بالتحقّق من نزع سلاح “الحزب” جنوب الليطاني، إطلاق التفاوض مع إسرائيل برعاية أمميّة أو أميركيّة أو دوليّة، وتولّي الدول “الشقيقة والصديقة” توفير آليّة لدعم الجيش اللبنانيّ وإعادة الإعمار “بما يضمن ويسرّع” حصر السلاح على كامل أراضي الدولة اللبنانيّة، لكن من دون التزام موعد زمنيّ أو آليّة محدّدة.
قد يرى “الحزب” في المبادرة مخرجاً تكتيكيّاً في الأيّام الصعبة، لكنّه لا يبدو مستعدّاً لتسوية كبرى على المستوى الوطنيّ تحدّد مصير سلاحه وموقعه في المعادلة الداخليّة، بغضّ النظر عن مدى واقعيّة أن تقبل بها إسرائيل المنتشية بإنجازها الأمنيّ، أو حتّى بالمبادرة المصريّة التي ربّما تكون أرحب زمنيّاً وأكثر تفصيلاً في تحديد الالتزامات.
يميل الرئيس إلى اللين بدلاً من التحدّي. يشرح أمام زوّاره مقاربته في ملفّ السلاح من منطلق أنّ الشيعة طائفة مجروحة لا ينبغي الضغط على جرحها. غير أنّ مشكلة “الحزب” ليست في جرحه وجرح بيئته، فالجراح تناوبت عليها الطوائف كلّها، وما من طائفة إلّا جنحت إلى التسوية بعد ذلك. إذا كان الشيعة في جرحٍ فإنّهم ليسوا في نكبة. بل إنّهم اليوم الأكثر تمكّناً في الاقتصاد والتعليم والديمغرافيا وفي مؤسّسات الدولة. لا مسوّغ للتوهّم أنّ زوال فائض القوّة سيذهب بهذا التمكّن.
تكمن مشكلة “الحزب” في العجز عن الإقدام نحو التسوية الوطنيّة، لأسبابٍ بنيويّة ترتبط بطبيعة علاقته مع إيران، وأسبابٍ جمعيّة تتعلّق بصورة فائض القوّة التي يتمسّك بها.
هل التسوية ممكنة؟
حتماً. لكنّها مشروطة بخروج الطائفة نفسها من ثنائيّة متخيَّلة: إمّا النكبة وإمّا فائض القوّة.