ما لم يقله جوزف عون في الاقتصاد أكده وأكثر في السياسة والأمن

أفضل ما يصح قوله في خطاب القسم لرئيس الجمهورية جوزف عون يوم انتخابه بتاريخ 9 كانون الثاني 2025، هو خطاب "العهد والتعهد"، إذ استخدم كلمة "عهدي" أكثر من عشرين مرة في خطابه، والتي تعني عهد فخامته، أي الفترة الزمنية، وتعني تعهده أي التزامه أمام شعبه وناسه. 

وقد جاء الخطاب "دقيقاً وموجزاً"، بحيث يمكن شرحه وتفصيله ليملاْ عشرات الصفحات. وقد تضمن الكثير من النقاط التي راوحت من الإصلاح الاقتصادي وإصلاح الإدارة ومكافحة الفساد الى العديد من التعهدات في المجال الاقتصادي منها الحرية الاقتصادية، وتشجيع الاستثمار، وحماية أموال المودعين، ومكافحة الفساد المالي، وتعزيز الإنتاجية، ومعاصرة التطور، ومحاربة البطالة وغيرها من النقاط ذات الصلة.

ولكن البارز في الخطاب هو التركيز على الشق السياسي بقدر التركيز على الشق الاقتصادي، وذلك للمعرفة والادراك المسبقين بأثر السياسة على الاقتصاد، وأثر المناخ السياسي من حيث الأمن والاستقرار الداخلي والخارجي على الأداء الاقتصادي ورفاهية المواطن. فالعلاقة بين علم السياسة وعلم الاقتصاد وثيقة؛ إنها علاقة تلازم وتكامل. ودائماً ما كان الارتباط وثيقاً بين السياسة والاقتصاد، وهي علاقة ذات اتجاهين؛ إذ قد تؤثر السياسة سلباً أو إيجاباً على الاقتصاد. 

ومن هنا، فقد تقصّد فخامة الرئيس أن يستهل خطابه بعبارات مثل: "تغيير الأداء السياسي" و"مفهوم الديموقراطية" و "صورة لبنان في الخارج". ثلاث عبارات افتتح بها خطاب القسم ليشير بوضوح وبصريح العبارة الى أن لا مجال لأي تقدم وتطور للبنان من ك كل النواحي من دون تغيير الذهنية السياسية التي كانت سائدة لعقود من الزمن وقد علاها الصدأ وعفا عنها الزمن. وثانيها تعزيز مفهوم الديموقراطية، ومعنى ذلك أن اقتصاد السوق لا يصلح سوى في الدول الديموقراطية، ولبنان كان ولا يزال أحد رواد الديموقراطية في المنطقة والعالم. والعبارة الثالثة، صورة لبنان في الخارج وما تكتسبه من أهمية كبيرة في علاقات لبنان الدولية ومع الأسواق والمؤسسات الدولية، وفي جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة والشركات المتعددة الجنسية الى الاقتصاد اللبناني، إذ يشكل  الأمن والأمان والاستقرار والحرية الاقتصادية عوامل مؤثرة ومهمة لأي بلد يسعى الى جذب المستثمرين والرساميل الى الداخل.

ثم تطرق فخامته إلى نقطة تشكل ركيزة أساسية لأي نهوض للبلد وأي استمرارية لمؤسساته، وهي سيادة حكم القانون، المحاسبة، والعدل هو الفاصل. فلا دولة من دون قانون الذي يشكل أول  الضمانات وأهمها لجميع أبنائه وللمقيمين على أرضه ولكل الأعمال، كما يعتبر من أهم عناصر جذب الاستثمار الأجنبي المباشر الى البلد لما يوفره من ضمانة وبنية أساسية، وكم نحن بحاجة الى عودة تلك الاستثمارات وإعادة لبنان قبلة المستثمرين العرب والأجانب للنهوض بالاقتصاد الوطني. 

وفي الأمن تعهد فخامته الاستثمار في الجيش والقوى الأمنية، ضبط الحدود وترسيمها، وتفعيل عمل الأجهزة الأمنية. فالأمن هو مفتاح الاستقرار السياسي والاستقرار الاقتصادي، وهو الضمانة التي تتيح للمواطن ممارسة حريته ونشاطه الاقتصادي بكل أمن وأمان. فضبط الحدود ومنع التهريب يساهم في حماية المنتج اللبناني من المضاربة والتهريب على الحدود وبالتالي في حماية الاقتصاد الوطني من المنافسة الخارجية غير الشرعية. 

ومن الأفكار المتقدمة والنقاط المهمة التي تعهدها فخامته هي بناء شراكات استراتيجية مع دول المشرق ودول الخليج العربي والدول الأفريقية، والانفتاح على الشرق والغرب وإقامة التحالفات مع مختلف الدول الصديقة والمجتمع الدولي. مما لا شك فيه أن التحالفات الاقتصادية والاستراتيجية تهدف إلى تعزيز التعاون في التجارة والخدمات المالية، وبخاصة في مجالات التقنيات المالية الحديثة، والخدمات المصرفية المفتوحة، وتمويل المشاريع. ويأتي هذا المطلب الضروري في ظل التطورات الجارية، في وقت يعيش فيه العالم على وقع تكتلات متعددة بعدما اقتنعت الدول بأنها وحدها لا تستطيع أن تحقق التنمية المرجوة، ويأتي دور الأقاليم تلبية لتطور المصالح وحركة المال والتجارة والسلع التي أصبحت متحركة وعابرة للقارات مع ازدياد عدد الاتفاقات الإقليمية في الآونة الأخيرة. 

كما تكلم فخامته بعناوين لا تقل أهمية كالاستثمار في العلم، واللامركزية الإدارية الموسعة، وحرية الاعلام، والملكية الفكرية، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي والخدمات الصحية، وبناء مستقبل للأجيال القادمة وغيرها من الأفكار التي تصب في مجملها في خانة النمو والتنمية الاقتصادية. 

أثبت الاستقرار السياسي من خلال التجارب الدولية أنه يحقق العديد من الأهداف، إذ يساعد في بناء الثقة بمؤسسات الدولة، كما يساعد في وقف هجرة الأموال وفي جذب الاستثمارات الأجنبية. فهناك علاقة بين التطور السياسي من جهة والنمو الاقتصادي من جهة أخرى، فكلما تطورنا سياسياً وتعمقت فينا دولة المؤسسات والقانون استطعنا ان ننمو اقتصادياً. إضافة الى ذلك، إن الاستقرار السياسي ودولة القانون يعززان من الشفافية والنزاهة في الدولة، وهذا ما يساعد على كسب ثقة المستثمرين، ويوجه المجتمع نحو التنافس الاقتصادي والإبداع.

لا شك في أن خطاب القسم لرئيس الجمهورية العماد جوزف عون يمكن اعتباره وثيقة سياسية شاملة وموضوعية، ترتكز على أسس إصلاحية ومعالجة التحديات الوطنية الراهنة، يعكس نهجاً جديداً يرتكز الى استعادة هيبة الدولة وتعزيز العدالة وتحقيق التنمية الشاملة، وهذا ما يشكل خارطة طريق طموحة لمرحلة جديدة من تاريخ لبنان. فبقدر ما جاء الاقتصاد في قلب الخطاب، اذ أشار الرئيس عون إلى ضرورة إصلاح الإدارة العامة، وتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص، وتحقيق تنمية متوازنة، فقد حمل في طياته الكثير من السياسة والأمن والانفتاح الخارجي والحرية والديموقراطية، والتي تشكل عناصر حماية للاقتصاد ودعامات للوطن.

إن الأزمات المتتالية التي مرَ به بلدنا تحتم على المسؤولين فيه إعادة تقييم ما جرى، وضرورة أخذ العبر والدروس مما حصل ووضع يدهم بيد فخامة الرئيس وتذليل العقبات والترفع عن الصغائر والمحاصصة البشعة. فلا يمر عقد من الزمن إلا نشهد حدوث أزمات باتت تهدد مستقبل الوطن وأجياله القادمة. فلبنان واقتصاده ليسا بمعزل عن التطورات الإقليمية أو الأحداث العالمية، ولكن بقاء هذا البلد واستدامته ينبغي ألا يكونا مرتبطين بشكل كبير بتداعيات تلك التطورات والأحداث ولا بسياسات داخلية تضع المصلحة الشخصية قبل المصلحة الوطنية، ينبغي أن يترافق خطاب القسم مع تحرك داخلي وطني ومؤازرة فخامة الرئيس لإعادة بناء اقتصاد ووطن نحلم به، وطن تعود اليه أجياله المهاجرة من سائر أصقاع العالم.