المصدر: النهار
الكاتب: سلوى بعلبكي
الاثنين 23 أيلول 2024 07:55:26
ربما لا يضاهي أزمة مقالع شركات الترابة وسمومها "التاريخية" إلا أزمة كهرباء لبنان، وعضالها الذي أنهك البلاد وماليتها. كلتاهما وُلدت من رحم العشوائية وسوء التخطيط الرسمي، وانعدام الرؤية الاستراتيجية لمستقبل الصناعة الوطنية، واستهتار الدولة المتمادي في حماية البيئة، والإنسان اللبناني من الإصابة بأمراض وعوارض تلوّث الماء والهواء والتربة، والمنتجات الزراعية وغيرها.
استمرار هذه الأزمات و"عمرها الطويل" ليس مردّه إلى غياب الدولة، والخلافات المستحكمة بين القوى السياسية والاجتماعية فحسب، بل إلى ترسّخ ثقافة تأجيل الأزمات، وشراء التسويات الموقتة، بأثمان مادية وبيئية واجتماعية، فاقت المقدور، وأهدرت المال العام، وتسبّب تراكمها بانهيار المقوّمات البيئية والاقتصادية في لبنان.
ويأتي الالتفاف على قرار مجلس الشورى، القاضي بإبطال قرار الحكومة في 28/5/2024 منح شركات الترابة إمكانية استثمار المقالع العائدة لها لمدة سنة كاملة، بمثابة تأكيد المؤكد، بأن لبنان يعيش في ظلال تفكك مروّع لأجهزة الدولة، وغياب كلّي لدور القانون، والمؤسسات المعنية، عن القيام بواجباتها ووظيفتها في تنفيذ القرارات والأحكام القضائية.
فبعدما أوعز وزير الداخلية بوجوب تنفيذ الحكم، تستمر شركات الترابة في "الضغط من أجل استصدار امتيازات تتيح لها مواصلة عملها، أهمها استثمار مقالع تحت غطاء إعادة تأهيلها أو إلغاء المرسوم الناظم للمقالع، إضافة الى ضغوط تمارسها على عمالها لتحويلهم إلى ورقة ضغط لإسقاط الشرعية"، وفق ما جاء في دعوة "المفكرة القانونية" للمؤتمر الصحافي الذي كان يفترض عقده الخميس الماضي، ولكن ألغي على خلفية التطورات الأمنية الأخيرة.
العمل خارج مرسوم تنظيم عمل المقالع؟
لا يخفي وزير البيئة في حكومة تصريف الأعمال ناصر ياسين القول إن "شركات الترابة تعمل خارج المرسوم رقم المرسوم 8803/2002، الذي ينظم طريقة ترخيص المقالع والكسارات وشركات الترابة، إذ إن مجلس الوزراء أعطى للشركات موافقات استثنائية لـ10 سنوات في عام 1997، وأصبحوا بذلك خارج المرسوم الذي يلحظ المخطط التوجيهي للمواقع التي يمكن ترخيص العمل فيها بقرارات صادرة عن المجلس الوطني للمقالع الذي يرأسه وزير البيئة". ويوضح لـ"النهار" أنه "منذ عام 2007 بدأت هذه الشركات تستحصل على موافقات استثنائية، فيما تم تشكيل لجنة تشاركية من خبراء وجهات محلية كالبلديات وأصحاب شركات الترابة، بهدف الانتقال الى إطار قانوني جديد. وخلصت اللجنة الى تنظيم عملية الحفر، وتخفيف حدة الانبعاثات، وإعادة تأهيل مواقع الحفر، ودفع مستحقات الخزينة، والعمل مع المجتمع المحلي على مشاريع بيئية تنموية. بيد أنه مع انفجار المرفأ، وضرورات إعادة الإعمار، سمح مجلس الوزراء لهذه الشركات بمعاودة العمل بموافقات استثنائية حتى أوائل عام 2022.
ثم بدأت الحكومة بإعطاء رخص استثنائية شهرية كانت تواجه بطعون أمام مجلس شورى الدولة، وتالياً لم يتسنَّ لشركات الترابة الاستثمار في المقالع منذ نيسان 2023 سوى أشهر". وأشار الى أن ثمة سعياً لتعديل المرسوم 8803، ولكن هذا الأمر رفضته الوزارات وخصوصاً وزارتا الاشغال والنقل ووزارة البيئة".
وفيما توجه أصابع الاتهام الى شركات الترابة بالعمل على استثمار مقالع تحت غطاء إعادة تأهيلها، لا ينفي ياسين أن ثمة شركات تناور للحصول على رخص استثنائية، علماً بأنه يمكنها التقدّم بطلب لإعادة تأهيل مواقع الحفر وفقاً للمرسوم 8803 وبطرق متعددة كالتجليل أو إنشاء حدائق عامة أو تحويلها الى مدينة صناعية، نافياً أن تكون إعادة التأهيل هي إعادة الاستثمار من جديد.
توازياً، ثمة معلومات تؤكد أن شركات الترابة تستورد "الكلينكر" الإسمنتي ولديها كميات كافية تغطي السوق لفترات طويلة، فيما ينفي ياسين أن يكون ثمة مقالع تابعة لأي شركة ترابة لا تزال تعمل، خصوصاً بعد قرار مجلس شورى الدولة وملاحقة وزارة الداخلية للمخالفين.
وكانت جمعيتا "وصية الأرض" و"الخط الأخضر" قدمتا بالتعاون مع "المفكرة القانونية" في 7 حزيران 2024 طعناً في قرارات الحكومة أمام مجلس شورى الدولة. وفي 13 آب الماضي، صدر قرار "الشورى" وقضى بإبطال "القرار الحكومي الذي منح شركات الترابة استثمار المقالع العائدة لها لمدة سنة كاملة. لكن الجهات الحكومية: رئاسة مجلس الوزراء، ووزارات البيئة والصناعة والداخلية، تجاهلت مسؤوليتها وشجعت عملياً هذه الشركات الاحتكارية على المضيّ بعمل المقالع خلافا للقانون، وفق الاتحاد الشمالي للدفاع عن البيئة".
أما المفكرة القانونية فاعتبرت أن "قرار مجلس شورى الدولة يؤكد مرة أخرى التزامه مواجهة التواطؤ الحكومي الحاصل مع شركات الترابة في انتهاك قوانين حماية البيئة والهواء والمياه، وضمناً انتهاك المرسوم 8803 الناظم للمقالع والكسارات. وهذا الالتزام كان المجلس قد عبّر عنه في 4 قرارات سابقة صدرت تباعاً في 19/1/2022 و20/1/2022 و15/3/2022 و20/4/2023.
وقد اعتبر مجلس شورى الدولة أنه "ليس لأيّ كان أن يستثمر مقالع من دون الالتزام بشروط المرسوم 8803/2002، ومنها الشروط التي تفرضها حماية البيئة وعدم جواز استثمار أي مقلع خارج الأماكن المحددة على خرائطه والحصول على ترخيص من المرجع المختص".
وما يفاقم من المخالفات، وفق "المفكرة القانونية"، هو أنها "تحصل بعد سنة من نشر وزارة البيئة تقريراً عن الأضرار الناجمة عن المقالع والكسارات المخالفة للقانون". وقد أحصى التقرير 1237 مقلعاً، أضاعت على الدولة مستحقات تقارب 4 مليارات دولار، جزء منه ضاع إلى الأبد كالرسوم والغرامات بفعل انهيار العملة الوطنية، وجزء آخر لم يضع بعد ما دام تعويضاً عن الضرر البيئي الواجب عليها الذي يقدّر يوم استيفائه. هذا التعويض الواجب بلغ حسب أرقام الوزارة الأخيرة مبلغ 2561 مليون دولار منها منها 1973 (إعادة تأهيل) و588 (ضرراً بيئياً).
المدير التنفيذي للمفكرة القانونية المحامي نزار صاغية أكد لـ"النهار" أن "وزير الصناعة أعد مرسوماً لتعديل المرسوم 8803/2002 الناظم للكسارات والمقالع، يسمح لشركات الإسمنت بالاستثمار في مناطق قريبة من معاملهم، بيد أن خلافات نشبت بين وزيري الصناعة والبيئة حول صلاحيات إعداد مراسيم كهذه أدت الى تطيير المرسوم من جدول أعمال مجلس الوزراء الأسبوع الماضي". ولكن هذا لا يعني أن الخطر قد زال، برأي صاغية، "خصوصاً أن وزيري الصناعة والبيئة اتفقا على إصدار قرار يتعلق بإعادة التأهيل"، وهو ما اعتبره صاغية استثماراً مقنّعاً، "لذا تقدمنا مع اتحاد بلديات الكورة بطعن أمام شورى الدولة، ونحن في انتظار بتّه".
المرسوم المقترح من وزير الصناعة، وفق ما يشرح صاغية، "لم يكتف بإلغاء المرسوم 8803 وضمناً ما احتواه من شروط ضامنة للبيئة (وأهمّها عدم جواز إقامة مقالع على مقربة من المناطق المأهولة)، بل تضمّن مادة رقمها 42 جاء فيها: "استثنائياً وبصورة موقتة يُسمح لشركات الإسمنت القائمة بتاريخ نفاذ هذا المرسوم بالاستمرار بالعمل بعد نفاذه، ولغاية صدور قرار المحافظ بالبت بطلب الترخيص وفقاً لأحكامه"، بما يعني أنه يجيز للشركات الاستمرار في استثمار مقالعها من دون حاجة للحصول على أي ترخيص من أي نوع كان. وهو بذلك يكون شرّع للشركات الاستمرار في تفجير الجبال من دون وضع أي ضوابط عليها.
التدقيق في أحكام المرسوم من صاغية يدفعه الى التأكيد أنه "لم يعر أي اهتمام لمرسوم ترتيب الأراضي الذي يحدّد المناطق التي تنحصر فيها إقامة المقالع ضمن رؤية اقتصادية وتنموية تشمل الأراضي اللبنانية كافة، بحيث أجاز الترخيص للمقالع المملوكة من شركات المصنعة للإسمنت من دون حصرها في أيّ منطقة جغرافية".
ويختم صاغية محذراً من الابتزار الذي تمارسه شركات الاسمنت وهو نوعان، الأول هو عبر تحريض عمالهم على الاحتجاج على خلفية قطع مصدر رزقهم، والثاني عبر رفع سعر الاسمنت من 90 دولاراً الى 120 دولاراً، علماً بأنهم يصدّرونه الى الخارج بسعر 45 دولاراً.