المصدر: نداء الوطن
الكاتب: طوني عطية
الخميس 26 حزيران 2025 06:41:31
قُرعت الأجراس، وعلت الزغاريد وصفّقت أيادي الحقّ والقضاء والتاريخ والتضحيات معاً، معلنةً أنّ القرنة السوداء أو "قرنو دسوهدي" (قمّة الشهداء) بشرّانية. فبعد نزاع دام لسنوات بين بشّري وبقاعصفرين، أصدر القاضي العقاري في الشمال قراراً لا لبس فيه بأنّ "القرنة" تقع ضمن النطاق العقاري لبلدية بشرّي.
هذا المسار القانوني، الذي بقي لعقود في ثلّاجة الروتين القضائي، تحرّكت ديناميكيته عقب استشهاد الشابين هيثم ومالك طوق، اللذين قتلا في منطقة الشِحَين (محيط القرنة السوداء) في تموز 2023. حينها أصدر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي القرار رقم 86/2023 القاضي بتشكيل لجنة لدرس النزاعات بين الحدود العقارية والنزاعات على المياه في أكثر من منطقة عقارية في لبنان، وتحديدًا بين بشري والضنية في القرنة السوداء-هضبة المكمل، وبين القبيات والهرمل، فنيدق وعكار العتيقة، أفقا ولاسا، وبين اليمّونة والعاقورة.
واستند قرار القاضي العقاري في محافظة الشمال تراز غسان مقوّم، إلى حجج دامغة أبرزتها بلدية بشرّي. فقد تقدمّت "بتاريخ 1/10/2019 باستدعاء أرفقته بمستندات رسمية صادرة عن المراجع المختصة، بالإضافة إلى إفادات من أهل المحلّة وكبار السنّ، وأشارت إلى أنها دأبت على تلزيم ربيع مشاع المحلّة المعروفة باسم جبل المكمل- القرنة السوداء- محلة سمارة، لأغراض الزراعة وتربية المواشي، وذلك بصورة علنية ومن دون معارضة أو منازعة من أحد.
في 10/3/2020، صدر قرار عن مجلس شورى الدولة بوقف تنفيذ العمل بقرار أو عقد إنشاء البحيرة الاصطناعية في محلة سمارة في منطقة جبل المكمل – القرنة السوداء".
أيضاً، أبرزت بلدية بشرّي، حجّة للمنطقة محفوظة في سجلّ مساحة لبنان القديم (سجلّ البترون) العائد للعام 1863 والذي يُعتمد عليه في الغالب لتحديد حدود المناطق العقارية، وقد ورد فيها حدود بشرّي قبلةً، شرقاً، شمالاً وغرباً، إضافة إلى قرارات تلزيم المشاعات، محدّدة حدود المشاعات في قراراتها، ومعلنة فضّ الأختام والمزايدات واستعمال الأراضي، وذلك منذ العام 1930 ولغاية تاريخه، ولم يتبيّن وجود أي اعتراض من قبل بقاعصفرين على أيّ منها. ولم يتمّ إبراز أي حجّة أو مستند آخر يناقضه، أو يُبيّن حدوداً مختلفة عنه".
وفي السياق القانوني الذي يؤكّد ملكية بشرّي للقرنة، أصدر مجلس شورى الدولة بتاريخ 12/3/2024، قراراً لصالح بلديتها بناء على دعوى مقدّمة من قبلها، يمنع بلدية بقاعصفرين من استخدام اسم "القرنة السوداء" في شعار بلديتها، وذلك لكون هذا الاسم يتعلّق ببلدة بشري فقط ولا يحق لأي بلدية أخرى استخدامه.
وشكّل هذا القرار وفق رئيس بلدية بشرّي جو كيروز، "انتصارًا للحقّ وليس تحدّيًا لأحد، لا سيما وأن بلديتي بشرّي وبقاعصفرين احتكمتا إلى القانون لفض هذا النزاع، وقد قال كلمته وعلى الجميع الامتثال لأحكامه". أمّا شقيق المغدور (هيثم طوق)، هندي طوق، فعبّر عن سروره، بأن "دماء هيثم ومالك أعادت الحقّ إلى أصحابه في بشرّي"، مشيراً في المقابل، إلى أن تعزيته كانت منذ لحظة استشهادهما "لأننا نعرف معنى التضحية والشهادة".
من جهّتها، أشادت النائبة ستريدا جعجع بجهود مجلس بلدية بشري السابق والحالي على المتابعة الحثيثة لملف الحدود بين بلدية بشري وبلدية بقاعصفرين، إحقاقًا للحق، ووضعًا للأمور في نصابها التاريخي والواقعي الممتد من جيل إلى جيل حفاظًا على حسن الجوار". وأضافت أن "هذه المتابعة التي كان من جرائها بذل الغالي والنفيس من كافة أبناء عائلات بشري وفاعلياتها، ومنها تضحية الشهيدين هيثم طوق ومالك طوق".
بدوره، شكر النائب وليام طوق "كلّ من بذل جهدًا وتضحيات في سبيل حماية وتثبيت هوية هذه الأرض البشراوية، لا سيّما، البلدية والنواب والفاعليات والمخاتير والكهنة والأهالي. والامتنان الأكبر لمن قدّموا التضحية الأسمى: تحيّة لروح الشهيدين مالك وهيثم طوق".
في المقابل، اعتبر النائب جهاد الصّمد وفي ردّه على بيان النائب جعجع "أنّ القرار الصادر عن القاضي العقاري هو قرار إعدادي وليس نهائيًا، وأنه قابل للاعتراض أمام القاضي العقاري ذاته"، مشددًا على "أفضل علاقات الجيرة والأخوة التي تربط أهلنا في الضنية وبشرّي". هذا البيان استدعى ردًّا من جعجع حيث أكّدت "مجددًا احترام السلطة القضائية وعدم محاولة تفسير القرارات خلافًا لمضمونها الواضح والذي لا لبس فيه، بأنّ القرنة السوداء تقع ضمن النطاق العقاري لبلدية بشري استنادًا إلى المستندات المبرزة"، وتمسّكها "شخصيًا كما تشبث أهالي وقضاء بشري بالمحافظة على حسن الجوار مع أهلنا في الضنيّة التي ربطتنا ولا زالت بهم أحسن العلاقات".
في نافذة تاريخية، تمتّع جبل لبنان أيّام السلطنة العثمانية بواقع منفرد. إذ تركت لأهالي هذه المنطقة حقّ إدارة أحوالهم وأموالهم وأراضيهم (حوالى 3000 كلم مربّع)، وتوجد غالبيتها في سفوح "جبل لبنان القديم" الممتدّة من القرنة السوداء وتنورين والعاقورة شمالًا حتّى جزّين جنوبًا. وتنعمّت بـ "ترتيب خاص" منذ ذلك الوقت حتّى الاستقلال. أمّا بقيّة المناطق، فاعتبرها السلطان العثماني ملحقة بالسلطنة، أي أراضي أميرية، تخصّ الحاكم. ومع المسح الفرنسي بقيت على حالها، ووضعت بقية المشاعات الأخرى في الشمال والبقاع والجنوب والساحل تحت إمرة الدولة اللبنانية. |