مدير عام ومغترب وطبيب وبنزين: مشاهد البؤس اللبناني

مغترب وطبيب
ذهب مغترب لبناني عاد إلى البلاد سائحاً إلى عيادة طبيب يعرفه، ويزور عيادته كلما عاد لمتضية إيام من عطلته الصيفية وزيارة أهله.

بعدما كشف الطبيب على المغترب السائح، قال له: أمرنا يا حكيم. فقال الحكيم: مئة ألف ليرة، لقد رفعت المعاينة قليلاً، لا تؤاخذني، وأنت عليم بأحوال لبنان في هذه الأيام. فتناول المغترب ورقة 10 دولار، وأعطاها لطبيبه قائلاً: خلي الباقي معك في هذه الأحوال الصعبة.

أمسك الطبيب بورقة الـ 10 دولار ورماها في اتجاه المغترب غاضباً ساخطاً، وبنبرة تنطوي على شتيمة تعادل ما شعر به من ذل ومهانة قال له: لا تدخل عيادتي مرة ثانية، مع السلامة أنت ودولاراتك.

مثل هذا المشهد يكشف عن حال أطباء لبنان اليوم. فبعدما كانوا من أصحاب مداجيل عالية، ومن عليّة القوم، باتوا يثيرون الشفقة، وخصوصاً من المغتبرين العائدين إلى البلاد لاستمتاع مضاعف بعملاتهم الأجنبية، على الرغم من أن كثرة منهم خسروا أمولهم الاغترابية المودعة في المصارف اللبنانية.

وفي الأيام اللبنانية الخوالي تعود هذا المغترب السائح أن يزور طبيبه إياه، ويطلب منه إجراء الفحوص والإكثار منها، ويرجوه أن يعطيه إيصالاً يرفع فيه كلفتها مع المعاينة ويضاعفها، كي يقدم الإيصال للمؤسسات الضامنة في بلد الاغتراب، ويحصّل مبلغاً يساوي أو يفوق ما دفعه للطبيب في لبنان.
موظف ودواليب سيارته
وذهب موظف لبناني راتبه 6 ملايين ليرة (من الطبقة الوسطى التي كانت تتمتع بامتيازات، وتعتبر مرفهة أو مقتدرة اقتصادياً) إلى محل "البنشرجي" لتبديل دواليب سيارته الكبيرة. قال له صاحب المحل إن ثمن الدواليب يفوق راتبه.
وقف الموظف صاحب الملايين الشهرية الستة، ساهماً محدقاً في البعيد أو في الفراغ أو العدم. وفكر أنه بات أمام خيارين: إما تبديل دوليب سيارته المهترئة، أو البقاء شهراً كاملاً في البيت بلا أكل ولا شرب ولا تنقل.
مدير عام الشقاء في مكتبه
مدير عام إحدى الوزارات يجتهد في أداء وظيفته وشرح رأي وزارته مطمئناً المواطنين. ينتقل كل يوم بسيارته من النبطية حيث يقيم، إلى بيروت. ينتظر مديداً في الطوابير الطويلة للوصول إلى محطات البنزين. في أوقات الانتظار الطويلة المهدورة، يسرح وعيه شارداً في الأفق البعيد، لكن لا أفق بل جدار قريب من الوعي والبصر. فيغرق المدير العام في تقليب أمور العيش أو الشقاء، في كل شاردة وواردة منه، أسوة بباقي موظفي القطاع العام.

وعندما يعود إلى منزله يفكر كيف ينتقل في اليوم التالي إلى مكتبه في وزارته ببيروت. كان المكتب ساحراً ويثير البهجة في مدير عام الأيام اللبنانية الخوالي. لكنه صار يبعث الكآبة والضجر اليوم. ولا يحسب المدير العام راتبه على سعر صرف الدولار، وكم بات يساوي، بل كم تنكة بنزين يساوي بعد رفع الدعم. يفكر أنه يحتاج منها إلى أربع في الأسبوع. أي 16 تنكة في الشهر. من أين أستدين للوصول إلى عملي؟ يتساءل، ويتمتم: نعيش في كارثة ولا نعلم إلى أين نحن منحدرين. يتلفت حوله في المكتب الخالي، ينادي سكريترته الموظفة في المكتب الصغير، فلا من مجيب.
ودارت الأيام بين خجل ومطاعم
موظف في منظمة من منظمات المجتمع المدني، راتبه ألف وخمسمئة دولار. كان يخجل من زميله الموظف بمركز مرموق في أحد المصارف، والذي يتقاضى أربعة آلاف دولار. لم يكن موظف منظمة المجتمع المدني  يتمكن من مجاراة موظف المصرف في يومياته الباذخة في المطاعم والنزهات، فلا يخرج معه إلا في ما ندر.

ودرات الأيام. بات موظف المجتمع المدني من علية القوم وموظف المصرف من الفئات المسحوقة، بعدما بات راتبه أقل من ثلاثمئة دولار.
مفارقات الدولار
موظف في مؤسسة تجارية كان راتبه 1500 دولار، أي مليونين وخمسمئة ألف ليرة. رفع رب العمل راتبه إلى ثلاثة ملايين ليرة أخيراً، فصار راتبه أقل من مئتي دولار، فيما أمعن رب عمله في تمنينه بالزيادة السخية.

لكن التاجر ضاعف أرباحه مرات عن المرحلة التي كان فيها راتب الموظف 1500 دولار. لقد رفع أسعار سلع متجره كلها أكثر من ارتفاع سعر الصرف. وما زال التاجر يدفع الضرائب والإيجارات على سعر الصرف الرسمي.
الدواء والأولاد
ذهبت امرأة إلى المستوصف كي لا تتكبد معاينة طبيب في العيادة. فمعاينة المستوصف 15 ألف ليرة. وزوجها يتقاضى 750 ألف ليرة في الشهر.

أيجار منزلهما 375 ألف ليرة. لم تشتر المرأة الدواء من الصيدلية، بعدما تبين لها أنه من فئة الأدوية غير المدعومة، وبات ثمنه مضاعفاً مرات عشر. قالت: أولادي الثلاثة أولى من الدواء.  
مدرّسة وعاملتها المنزلية
كانت امرأة تعمل مدرسة في مدرسة مرموقة، وراتبها يتخطى ثلاثة ملايين ليرة. أي أكثر من ألفي دولار. وكانت تساعدها في المنزل عاملة في الخدمة المنزلية.
وتركت المدرسة عملها ورحّلت عاملتها إلى بلادها، لأن راتبها بات أقل من راتب العاملة.
"الديلر" أو سمسار البنزين
لماذا لا تتصل بي يا رجل؟ سأومن لك البنزين بلحظات، قال لي صديق عندما علم أنني أؤجل عملاً لي في النبطية خوفاً من طوابير البنزين.  

وقال الصديق أيضاً: "الديلر" (سمسار البنزين) هنا يأتي إليك بلحظات ويملأ سيارتك من دون أن تكبد أي عناء، والسعر مميز جداً: ستين ألف ليرة ثمن تنكة البنزين.
محطة مركبا بنزينها في سوريا
وسأل أحدهم أحد معارفه - وهو صاحب محطة بنزين في قرية مركبا الحدودية في الجنوب: لماذا تقفل محطتك ولا تجلب بالبنزين يا صاح، وتخفف من الازدحام على باقي المحطات؟ أجابه صاحب المحطة: بل أنا أجلب البنزين، لكنني أرسله إلى سوريا، وبلا وجع رأس ومشاكل، كتلك التي تحصل يومياً أمام المحطات.

وأضاف صاحب المحطة: نبيع ليتر البنزين في سوريا بـ18 ألف ليرة، بينما نبيعه هنا بألفي ليرة ونيف فقط، وتريدني أن أفتح محطتي! فقال له صديقه: لماذا لا تنقل محطتك إلى سوريا؟