مرونة إيران و"حسن النيّة" إزاء لبنان

لا يزال ما حصل في بلدة مصياف السورية مثيراً لانتباه المتابعين المهتمّين على خلفيّة أمرين لافتين: تقليل إيران إلى حدّ كبير من أهمية الإنزال الإسرائيلي الذي استهدف إيران لاستخدامها المنشأة في مصياف لتصنيع الصواريخ. وهذا الأمر مقصود على الأرجح من أجل تبرير عدم ضرورة الرد على الاعتداء الإسرائيلي الذي يُعدّ نقلة نوعية من حيث حصوله بالشكل الذي حصل فيه وطبيعته. والأمر الآخر يتصل برد فعل النظام السوري الذي غاب بالكامل وكأن ما حصل لا يتعلق بسيادة سوريا أو أمنها، وهو ما يعطي مؤشّراً على جملة أمور بالنسبة إلى التزام النظام مساراً معيّناً لا يخاطر بمصيره من خلاله. وهذه النقطة لا تحتاج إلى إثبات انطلاقاً من الابتعاد الطوعي للنظام عن أي موقف مما يحصل في غزة منذ انطلاق الحرب بعد عملية "طوفان الأقصى" التي نفّذتها حركة "حماس" ضد إسرائيل. وفيما عزا كثُر السبب المباشر إلى القطيعة بين النظام والحركة بعد تأييد الأخيرة لانتفاضة السوريين ضد النظام والتي لم تنتهِ فعلاً رغم المصالحة الأخيرة بينهما، فإن الصمت عما حصل ويحصل للفلسطينيين في غزة كان صارخاً ومدوّياً. وكانت الخلاصة التي تفيد بعض المعطيات عن تدخّل روسيا مع إيران من أجل عدم إقحام النظام السوري في "وحدة الساحات" حفاظاً على النظام وبقائه، لكن من دون أن يلغي ذلك بقاء سوريا ساحة، وإن كانت ساحة مختلفة عن لبنان، لكنها ساحة يبدو أن إسرائيل حصلت على ضوء أخضر لاستهداف إيران والحزب فيها من دون أن تلقى ردوداً فعلية لا من جانب روسيا ولا من جانب النظام، فيما إيران ردّت على استهداف قنصليّتها في دمشق بهجوم شامل على إسرائيل لم تكن نتائجه بالحجم المتوقَّع وغيّبت أي رد فعل محتمل على استهداف مصياف، حيث اكتفت وزارة الخارجية الإيرانية بإدانة الغارات الإسرائيلية ووصفتها بأنها "إجرامية".

وهذا جعل من النظام السوري في هذه المعمعة "عربياً" وليس "إيرانياً" من حيث عدم انخراطه في حرب "وحدة الساحات". والبعض يلفت في هذا الإطار إلى إعادة افتتاح المملكة السعودية سفارتها في دمشق أخيراً بعد إقفال 12 عاماً في توقيت يكتسب دلالات كبيرة على مستويات عدة وتعطي زخماً للنظام في ابتعاده عن الانخراط في الحرب ضمن المحور الإيراني، علماً بأن ذلك لن يعفي سوريا من احتمال أن يشملها التصعيد الإسرائيلي على خلفية اعتقاد كثُر بأن إرادة الحكومة الإسرائيلية بالتصعيد على حدودها الشمالية مع لبنان وفق تهديدات مسؤوليها أخيراً لن تشمل توسُّعاً في اتجاه منطقة عازلة في جنوب لبنان لأن ذلك لن يفيدها وستغرق مجدداً في ما غرقت فيه إسرائيل في تجارب سابقة في لبنان، بل ستشمل التفافاً من جانب الجولان وصولاً إلى سوريا على خط إمدادات الحزب عبرها على نحو يجعل حرب الاستنزاف حرباً ممتدّة باهظة الكلفة على لبنان والحزب أكثر بكثير ممّا تتكبّده إسرائيل.

بالعودة إلى إيران، يرى مراقبون منطقاً في تقليلها أهمية عملية مصياف في ظل مسار جديد باعتمادها ضبط النفس إزاء الرد على مقتل إسماعيل هنية في طهران وعدم الانجرار إلى ما تريده إسرائيل، فيما تثير غضب الدول الأوروبية والولايات المتحدة في إمدادها روسيا بالصواريخ الباليستية وفق تأكيدات هذه الدول ونفي طهران. فهذا كله لا ينفصل عن المسار الجديد الذي يعبّر عنه الرئيس الإيراني ومدلولات كلامه إزاء إظهار مرونة في الملف النووي ربطاً على الأرجح بالمخاوف من نتائج الانتخابات الأميركية، لكن أيضاً وعلى نحو أهم لأن الاقتصاد لا يكذب على حد قول أحد الديبلوماسيين المخضرمين على عكس حال السياسة، وتطمح إيران بقوة في مسارها الجديد إلى رفع بعض العقوبات عنها لإراحة اقتصادها الذي يختنق.

السؤال المهم بالنسبة إلى بعض المراقبين هو إن كانت المرونة اللافتة التي عبّر عنها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان في مؤتمره الصحافي الأخير عن عدم رغبة بلاده في التوسّع أو تصدير الثورة (!) والانفتاح على الدول الإقليمية والغرب والحوار مع واشنطن يمكن أن تترجم إفراجاً عن لبنان الرهينة أم لا. فهذا يفترض أن يكون بين الأولويات التي يمكن للدول المعنيّة برغبة إيران الانفتاح عليها وتعزيز العلاقات معها المطالبة بدليل "حُسن نيّة" يبدأ من لبنان أو يكون لبنان على الأقل من ضمن بنوده.