مسنّون يستسلمون للموت في... البيوت

حين علمتْ سيدةٌ أحيلت على التقاعد حديثاً، أنها أصيبت بمرض مستعصٍ، لم تخبر أحداً من أبنائها... هي المدرّسة في إحدى المدارس الرسمية، أصبحت بلا تأمينٍ صحي، بعد تَعَثُّر المؤسسات الرسمية الضامنة في تأمين الرعاية الصحية لأساتذتها الحاليين والمتقاعدين.

بِصَمْتٍ وهدوءٍ رحلتْ الوالدة، لكن ليس بسبب المرض بل انتحاراً، رأتْ فيه سبيلاً وحيداً لتوفير المشقّة على عائلتها لتأمين تكلفة علاجها وتأمين أدوية مفقودة.
وعندما نقلت هنادي، والدها العجوز إلى المستشفى بسبب مشكلات في الكلى، لم يكن في ذهنها أن تصادف طبيباً من معارفها، ينصحها بعدم إبقاء والدها في المستشفى ووقف علاجه.

والدها مُزارِع تسعيني يعيش في منطقة جبلية، ابنته الموظفة سجّلتْه كونها المعيلة الوحيدة له على اسمها في الضمان الاجتماعي، المؤسسة الرسمية التي انهارتْ أوضاعُها المالية بسبب تدني قيمة الليرة، ولم تعد المستشفيات، وفق ذلك، تقبل مرضى مضمونين بعدما أصبحت تسعيرة الاستشفاء بالدولار الأميركي.

شرح الطبيب لابنة المريض أن حالة والدها تستدعي علاجاً مزمناً قد يتطور بسرعة إلى غسيل الكلى، أي بكلفة آلاف الدولارات، وهي لا قدرة لها على تأمينها، ونصيحته بأن تعيد والدها إلى المنزل، ليمضي آخر أيامه فيه قبل الموت، من دون علاج.

هاتان الحادثتان نموذج عن مئات، وربما آلاف الحالات المشابهة التي تحدث بصمْتٍ بعيداً عن عيون المسؤولين اللبنانيين، في بلادٍ بات الاستشفاء فيها مرتفع التكلفة وبالدولار، وتعثرت أحوال المؤسسات الرسمية الضامنة.

وأول شريحةٍ دفعتْ ثمن هذا التدهور هي فئة المسنين.

مع انتشار وباء «كورونا»، استنسخت غالبية البلاد تجربة الدول الأوروبية وبروتوكول وزارات الصحة فيها لتطبيق اللقاح على الفئات الأكبر عمراً.

ولبنان كان واحداً من هذه الدول، التي خصصت اللقاح في مراحله الأولى للعجزة.

قد يكون هذا العمل الوحيد في تاريخ الدولة اللبنانية الحديثة الذي أولي فيه الاهتمام للعجزة، لكنه تم بناء على تعليمات منظمة الصحة العالمية التي أمّنت اللقاحات، وليس بمبادرات لبنانية صرف.

منذ أن بدأ تكوين الإدارة اللبنانية، والكلامُ عن ضمان الشيخوخة يتقدم مشاريع الحكومات المتعاقبة، لكن وعودها ظلت حبراً على ورق.

ولم تستطع أي وزارة معنية أن تقدم حلولاً لمشكلة مستعصية مزمنة تطول الشريحة الكبرى من فنانين وذوي مصالح حرة أو مزارعين وصيادين ومياومين، لا تشملهم رعاية الضمان الاجتماعي.

وطالما رفع الفنانون والمسرحيون صوتهم للمطالبة بتأمين ضمان الشيخوخة لهم، من دون أن تتحرك الوزارة المعنية، إلا حين يُرفع الصوت من أجل زميل وفنان يقبع مريضاً في منزله من دون استشفاء.

لكن اليوم ومع انهيار الليرة، باتت كل الفئات اللبنانية مستهدَفة، الموظفون والعاملون في القطاعين العام والخاص، ولم يعد قطاع التأمين الرسمي قادراً على تلبية احتياجات المستشفيات بالدولار الأميركي، الأمر الذي ترك اللبنانيين بين أيدي شركات التأمين الخاصة.

يروي أحد العاملين في إحدى دول الخليج، أن أول ما بادر إلى ذهنه بعد ارتفاع سعر الدولار، هو شراء بواليص تأمين صحية لوالديه بالدولار، بعدما انتقلتْ هذه الشركات من الليرة اللبنانية إلى العملة الخضراء، وانهيار قطاع الصحة.

فهذه الشركات التي كانت مزدهرة قبل أعوام وتتسابق مع المصارف على تقديم أفضل عروض التأمين لزبائنها، بدّلت سياستها منذ أكثر من عام، وبدأت تتقاضى «الفريش دولار» مقابل خدمات استشفائية، والبعض منها يرفض تقسيط المبلغ المستحق، ما يعني بالنسبة للمسنّين أن بوالصهم قد تراوح بين ألفي وستة آلاف دولار نقداً، على الأقل، بحسب الفئة العمرية.

في واحد من المستشفيات الخاصة، تقول إحدى الممرضات إنها تصادف أسبوعياً حالات مماثلة لِما حصل مع مريض الكلى الذي اضطره العوز إلى وقف العلاج والتسليم بقدَره.

آباء وأمهات يعجز أولادهم عن إدخالهم إلى المستشفى فيقبعون في غرفة الطوارئ لساعات ليعودوا إلى منازلهم ويقضون أيامهم الأخيرة فيها، ما يترك أولادهم في أزمات نفسية سيئة نتيجة عدم قدرتهم على تأمين علاجات أهلهم.

وأحياناً تضطر عائلة المريض إلى بيع ما لديها بأسعار بخسة من أجل إكمال علاج مريضها.

واللبنانيون الذين يلجأون عادة إلى المستشفيات الخاصة، بدأوا يتحولون إلى الحكومية التي تعاني نقصاً فادحاً في المستلزمات الطبية وفي مستوى الخدمات وجودتها. لكن هناك عائلات لم يعد في مقدورها تأمين الطعام وفاتورة المولد الكهربائي، وتالياً لا تجد أمامها سوى المستشفيات الحكومية التي باتت تعجّ بالمرضى.

ومشكلة المسنّين مع المستشفيات هي نفسها: معاناة تأمين الأدوية، حتى العادية منها، وليس المستعصية فحسب، بسبب أزمة الدولار.

وتحاول إحدى الأمهات تفادي تكبيد ابنها الموظف عناء تأمين العلاج لها، فلا تتناول الدواء بانتظام لتوفيره، بعدما ارتفع سعره من 80 ألف ليرة إلى 500 ألف. وهي حالة «نموذجية» لروايات يحكيها الأبناء عن أهلهم في كل المناطق من دون استثناء.

ولأن رعاية المسنّين لا تقتصر على الاستشفاء فحسب، لا سيما للعاجزين بينهم، انتشرت في الأعوام الأخيرة دور العجز الخاصة والتابعة لمؤسسات دينية.

بعض هذه المؤسسات كان يتعامل مع وزارة الشؤون الاجتماعية كونها ترزح تحت أعباء مالية، لتأمين خدمات رعاية لمسنين من الطبقة الفقيرة.

لكن في المقابل، أقامت مؤسسات خاصة دور رعاية بكلفة عالية لرعاية مسنين من الطبقة المتوسطة والميسورة، لتأمين رعاية طبية واجتماعية وتوفير متطلبات الراحة، في حين أن انتشار ظاهرة الخادمات المنزليات أعطى للعائلات مجالاً رحباً لتأمين مساعدة منزلية للمسنين. إلا أن الانهيار المالي، أدى إلى انخفاض كل الخدمات دفعة واحدة.

فأجور الخادمات المنزليات بالدولار، ما جعل عائلات تستغني عنهن، وتحاول الاستعانة بخدمات بالساعة لممرضين أو عاملين منزليين. في حين أن الشبان والشابات الذين يعملون في الخارج، باتوا أكثر قدرة على تأمين رعاية منزلية لأهلهم نتيجة الفارق في سعر الدولار.

وهذا ما فتح الباب أمام لبنانيات يعملن في خدمة مسنات ومسنين، نتيجة الحاجة المتزايدة إلى المال.

بدورها، رفعت دور العجزة أسعارها بالليرة اللبنانية. علماً أن ثمة دور عجزة كانت تتقاضى شهرياً عن كل مريض ما يقارب ألفي دولار، قبل الأزمة، في حين أن إحداها من درجة متوسطة، رفع سعره بالليرة اللبنانية إلى ما يقارب عشرة ملايين ليرة شهرياً.

يقول أحد الأطباء الذين يتعاونون مع دار للعجزة، إن ما تشهده الدور المتوسطة حالياً يفوق التصور، فأكلاف الرعاية اليومية وتأمين المستلزمات الشخصية والنظافة عدا عن الطعام والأدوية بات متعذراً في شكل كامل، فانخفض مستوى هذه الخدمات وطُلب من العائلات أقله تأمين الطعام لمسنيهم، مقابل الاستمرار في الخدمات الأخرى، لا سيما أن هذه الدور تعاني كذلك من تأمين الكهرباء والتدفئة أو التبريد للمسنين، ما يشكل تحدياً للعائلات بين ارتفاع سعر المواد الغذائية ومتطلبات النظافة الشخصية للمسنّين، عدا عن تكلفة الإقامة.

وسودوية ما يحصل بالنسبة إليه، هو أن عائلات اضطرت إلى إعادة مسنّيها إلى البيت حيث تنعدم أحياناً كثيرة أدنى متطلبات الراحة والقدرة على العناية لا سيما للمرضى منهم: «إنها حلقة مفرغة»، يقول... والحبل على الجرار لأن هذه المشكلة مرشحة لأن تتفاقم أكثر مع ازدياد حدة الانهيار المالي والاستشفائي في بلدٍ يهجره الشباب ويترك كبارَه لموتٍ... بطيء.