مسيحيّو الجيّة: أكثرية تُعاني من حكم "حزب الله" الأقلويّ

في حين تستقطب البلديات الكبرى اهتمام الرأي العام، ويتّصف بعضها بـ"أم المعارك"، تُخفي الجيّة، تلك البلدة الساحلية الجميلة (Gayyo) وتعني في اللغة الكنعانية "المكان المبهج واللطيف"، تحت بحرها الأزرق الهادئ، جمراً من التحدّيات الوجودية والهواجس الهوياتية. فتنوّعها الطائفي، يتحوّل بلديّاً إلى عبءٍ، يجعل الأكثرية المسيحيّة تحت رحمة الأقلية.

لتوضيح هذه الإشكالية، يجب قراءة خريطتها الديموغرافية وتوزّع سكّانها بين مقيمين ومغتربين من جهة، والسياسية من جهة أخرى.

يتخطّى عدد الناخبين المسيحيين الـ 5 آلاف، معظمهم خارج الوطن بعد أن شتّتهم التهجير خلال الحرب الأهلية صوب المهاجر (لا سيّما أستراليا). أما عدد الناخبين المقيمين، فيقارب الـ 1500، تتفاوت مشاركتهم بين 600 و 800 مقترعٍٍ. في المقابل، يبلغ عدد الناخبين الشيعة نحو 1200، ينتخب منهم حوالى 800 مقيمٍ أو أكثر، والسنّة يقترع منهم 600 من أصل ألف ناخب تقريباً.

قبل الولوج إلى البعد السياسي، تجدر الإشارة إلى أن بلدية الجيّة وعلى غرار العديد من البلدات اللبنانية المختلطة، تعتمد المناصفة بين أعضائها على أن يكون رئيس مجلسها مسيحيّاً ونائبه مسلماً (في الدورتين السابقتين، بات هذا المركز من حصّة الشيعة). حتى الآن، تتنافس لائحتان، الأولى بقيادة جاك القزّي والدكتور حبيب القزّي (3 سنوات لكلّ منهما)، والثانية برئاسة وسام القزّي.

صحيح أنّ الطابع العائليّ هو الطاغي في انتخابات الجيّة، غير أنّ التدخّل السياسي، لا سيّما من جانب "حزب اللّه" و "أمل" هو عقدة الخلل ومكمن القلق لدى مسيحيي الجيّة.

في هذا السياق، تقول مصادر أهلية مطّلعة على السباق البلدي المحموم، إنّ المسألة لا تتعلّق بالمناصفة، إنما في صحّة التمثيل، حيث إن الناخبين الشيعة وبدعمٍ من "الثنائي" يشكّلون "بلوكاً" انتخابياً متراصّاً، يحدّد كفّة الميزان، علماً أنّ "الهوى المسيحي" يميل نحو اللائحة الأولى. وتشير إلى أن "أمل" وعلى عكس ما يتمّ الترويج له، تتّجه بضغط من "حزب اللّه" إلى دعم اللائحة الثانية. وتؤكّد مصادر أن المعضلة ليست في خيارات الشيعة أو من يدور منهم في فلك "الحزب" و "الحركة"، فهم أحرار في اختياراتهم وتوجّهاتهم. مشكلتنا هي في قانون الانتخاب وعدم اعتماد "الميغاسنتر" وحرمان الاغتراب من المشاركة في تقرير مصير بلدياتنا التي نحبّها ونتفاعل مع متطلباتها وهمومها حتى لو كنّا في أصقاع الأرض".

ويثير هذا الصوت الصارخ والشجاع والصادر من الجيّة، نقطة أساسية تغيب عن بال المعنيين والمسؤولين، قائلاً: "في الحقيقة، نحن مهجّرون، قبل أن نصبح مغتربين. نحن لم نترك أرضنا لأسباب اقتصادية أو اجتماعية، بل لأننا تعرّضنا لتهجير سياسي وطائفي خلال تلك الحقبة الأليمة من تاريخ لبنان. لذا، من واجب الدولة إعطاء اللبنانيين المغتربين والمهجّرين في آن، حقّ الاقتراع، كتعويض معنوي ووطنيّ".

هذه العيّنة التي تُجسّدها الجيّة، تُعرّي خلفيات بعض القوى السياسية التي تخشى أصوات المغتربين، من أجل إبقاء سيف الديموغرافيا مصلتاً على رقاب المسيحيين.

وتشدّد الأوساط على أنّ المشكلة ليست مع الشيعة ولا مع السنّة ولا مع أي مكوّن آخر، إنما مع مشروع "حزب اللّه" التوسّعي والخطير خصوصاً في ساحل الشوف، كونه نقطة عسكرية ولوجستية مهمّة له، تربط بيروت بالجنوب. لأجل ذلك، وللمفارقة، يعتمد "الحزب" السياسة ذاتها التي مارستها الحركة الصهيونية في فلسطين أي شراء الأراضي تحت الضغط النفسي والمادي من أجل تغيير الواقعين الديموغرافي والجغرافي. والمؤسف في هذه القضية، أنه ينفّذ مبتغاه بمساعدة بعض المسيحيين، إذ لا يزال فرار رئيس بلدية الجيّة السابق جورج نادر القزي قبل 6 سنوات المتهم بتسهيل بيع عقارات المسيحيين وأراضيهم في الجيّة للشيعة، خير دليل على أهمية الانتخابات البلدية وتأثيرها المباشر على مصير البلدة.

في المقابل، تُحَمّل المصادر، "السلطات الكنسية والسياسية المسيحية، مسؤولية الحفاظ على هوية الجيّة التي تتآكل وتتغيّر معالمها وأصالتها، بسبب "خوف" تلك المرجعيات وعدم الوضوح في مواقفها ورؤيتها"، إضافة إلى انكفاء دور "الحزب التقدمي الاشتراكي" الذي كان يُشكّل وزناً سياسيّاً لصالح المسيحيين في الجيّة وغيرها من بلدات المنطقة، بوجه مشروع "حزب اللّه" التوسّعي والمتنامي في ساحل الشوف خلال السنوات الأخيرة.