مصرف لبنان: إعادة الإعمار ليست مسؤوليتنا

كتب عماد الشدياق في نداء الوطن:

لم يتأثر الواقع النقدي بفعل الحرب كثيراً. استطاع مصرف لبنان أن يضبط اللعب على الرغم من الضغوط التي تعرّض لها في الأسبوعين الأولين من شهر تشرين الأول. اليوم عادت الامور إلى نصابها الطبيعي تقريباً. لكنّ تصريحات وزارة المالية تنبئ بمحاولة "جس النبض" من أجل تمويل إعادة الإعمار أو حتى التعويض على المتضررين، بواسطة زيادة الضرائب.

في ظلّ الحرب المدمرة التي يعيشها لبنان، يمكن القول بشيء من الثقة، إنّ الوضع النقدي في البلاد ما زال ممسوكاً حتى اللحظة، وذلك على الرغم من التراجع الذي سجّلته احتياطيات مصرف لبنان في الأسابيع القليلة الفائتة.

تلك الاحتياطيات سجلت تراجعاً وصل خلال النصف الثاني من شهر تشرين الأوّل (أكتوبر)، إلى قرابة 92 مليون دولار. أضيفت إلى تراجعٍ آخر سجّلته الاحتياطيات مطلع الشهر نفسه بقيمة 344 مليون دولار. وهو ما يعني أنّ مصرف لبنان أنفق في غضون شهر، ما يصل إلى قرابة نصف مليار دولار (436 مليوناً بالتحديد)... وهو الشهر الذي تحوّلت الحرب فيه من "منطق المساندة" إلى واقع "الحرب الشاملة".

وفي تفنيد المبلغ، فإنّ القسم الأكبر منه دُفع للمودعين من خلال 3 دفعات شهرية للمستفيدين من التعميمين 158 و161 بداية الحرب، ثم على دفعتين مشابهتين بالإضافة إلى تأمين رواتب القطاع العام بالدولار الأميركي. أي أنّ الحرب كبّدت المصرف المركزي تقديم 5 دفعات للمودعين، مسبّقاً، من أجل مساعدتهم على مواجهة الظروف المعيشية المستجدّة.

وفيما يُتوقّع أن يصدر مصرف لبنان غداً في 16 تشرين الثاني (نوفمبر) بياناً حول وضعه المالي (يصدر كل 15 يوماً) يُرجّح أن يظهر في أرقامه تحسناً طفيفاً عما سبق نشره، فإنّ حجم الاحتياطيات المتبقية كان قد بلغ حدود 10.26 مليارات دولار. وهو أعلى مما كانت عليه تلك الاحتياطيات قبل مغادرة الحاكم السابق رياض سلامة، بنحو 1.6 مليار دولار.

وفي هذا الصدد، تقول مصادر مصرف لبنان لـ"نداء الوطن"، إنّ بداية الحرب التي انطلقت جدياً مع انفجار أجهزة الـ Pagers في 17 أيلول (سبتمبر) ثم ما تبعها من أحداث دموية، "عرّضت سوق القطع لضغوط كبيرة". ولولا ضعف كتلة الليرات اللبنانية الموجودة وتواضع قيمتها في السوق (قرابة 50 تريليون ليرة أو ما يعادل 560 مليون دولار) "لكان أصحاب المصلحة وهواة التخريب أكثر قدرة على اللعب بالاستقرار النقدي".

العامل النفسي لدى الناس إثر الصدمة التي تعرضوا لها نتيجة هول الهجمات الإسرائيلية، بدوره "لعب دوراً سلبياً إضافياً، أثّر بشكل بسيط"، لكنّه لم يصل في تصنيفه إلى حدود: "الخطر الداهم".

أما اليوم، فتؤكد مصادر مصرف لبنان أنّ الأمور عادت إلى ما كانت عليه ما قبل منتصف أيلول (سبتمبر) تقريباً. حيث استعاد الطلب على الليرة اللبنانية نشاطه في السوق، وأصبح الوضع "شبه طبيعي"، يعادل 80% مما كان عليه الطلب على الليرة في السابق. في نظر المصادر، فإنّ هذا الأمر  "إشارة جيدة" الى أنّ الجباية (جباية وزارة المالية) أحرزت تقدماً ملحوظاً، وهذا سيدفع بمصرف لبنان نحو تعزيز فرص استعادة مراكزه السابقة، من خلال تحصيل ما تمّ إنفاقه من دولارات خلال الشهر الفائت، لكن بشكل تدريجي.

وهذا بدوره، مؤشر على أنّ الناس عادت إلى الالتزام بدفع الضرائب، ولو بشكل خجول. إذ تكشف الأرقام بحسب المصادر نفسها، أن الحركة الاقتصادية هي الأخرى تراجعت خلال الشهرين الفائتين بواقع 40%. لكن حركة الإيرادات ليست عاطلة مقارنة بظروف الحرب.

وعليه، فإنّ هذه المعطيات قد لا تتقاطع (أو ربّما تناقض) ما قاله وزير المالية يوسف الخليل أمس، حول "بحث الوزارة عن مصادر تمويل لزيادة الإيرادات"، وهو ما يمكن تفسيره "إشارة" أو عملية "جسّ نبض" لإمكانية زيادة الضرائب في موازنة العام 2025 المرتقبة، التي تنتظر البحث بأرقامها بعد الحرب المستجدة في وزارة المال، وتعديلها... فهل تستغل السلطة السياسية الحرب من أجل الهروب إلى الأمام من خلال رفع الضرائب بحجة تغطية تكاليف إعادة الإعمار أو التعويض على المتضررين؟

الإجابة على هذا السؤال تختصرها الأرقام: قبل الأزمة، كان حجم الموازنة قرابة 17 مليار دولار، أي 30% من الاقتصاد الكلّي المقدّر بنحو 54 مليار دولار. بينما موازنة العام الحالي (2024) هي قرابة 3.2 مليارات دولار، أي 15% من حجم الاقتصاد الكلّي... وهو رقم يستطيع الأخير تحمّله إلى حدّ ما. أما إذا حمّلت الفروقات النابعة عن الحرب للاقتصاد أو لمصرف لبنان... فإن هذا الأمر قد ينذر بأزمة جديدة!

تختم مصادر مصرف لبنان في ردها على هذا الأمر بالقول: "لا قدرة للمركزي على تقديم دولار واحد لإعادة الإعمار المقدّرة نفقاتها بعشرات مليارات الدولارات"، لأنّ المركزي في هذه الحالة "سوف يعطي ما لا يملكه... ومن الأفضل أن تقوم السلطة ببحث هذا الأمر مع المجتمع الدولي".