مصرف لبنان بعد سلامة: رجاء أم خيبة؟

إنقسم اللبنانيون إلى فريقين بعد استلام نائب الحاكم الأول الدكتور وسيم منصوري زمام الحاكمية في مصرف لبنان بعد سلامة:

(الأول) استمرّ بنظرته السلبية للمستقبل على أساس أنّ القائم بمهام الحاكم وزملاءه نوّاب الحاكم الآخرين لم يصدر عنهم أي موقف مناقض أو متمايز علنيّ لخطط سلامة طوال السنوات الثلاث الماضية، إلى جانب إقرارهم بقطع حسابات المصرف لهذه السنوات من دون أي تحفّظ ما خلا الإعلان عن ضرورة إجراء تعديل إشكالي لـ»صيرفة».

و(الثاني) توسّم خيراً من البيانات العلنية التي صدرت عن نوّاب الحاكم قبل ويوم انتهاء ولاية الأخير، والتي تشي بنية لديهم بقطع التواصل مع الماضي.

إيجابيات واضحة

أهمّ هذه المواقف إصرارهم بداية على أن مصرف لبنان لن يقوم بتغطية أي عجز في الموازنة وأية احتياجات عامة على الأخص بالعملة الأجنبية بالتحديد من الاحتياطي الإلزامي للمصارف لدى مصرف لبنان إلّا بموجب قانون. تمّ تصحيح هذه المقولة لاحقاً وسريعاً بالتمسّك برفض إقراض الحكومة بشكل قاطع سواء أكان ذلك بالليرة اللبنانية من خلال طباعتها أم بالعملات الأجنبية من الاحتياطيات الإلزامية الدولارية، وحتى لو تعلّق الإقراض بتسهيلات صندوق للخزينة. وكان رأي الدكتور منصوري أن تغطية عجز الموازنة يجب أن تتأتى من تفعيل الجباية وخفض الإنفاق، وأنه آن الأوان لفك الارتباط بين المالية العامة والسياسة النقدية.

أيضاً يسجل للأخير ورفاقه مباشرتهم شفافية غير مسبوقة بالعودة الى نشر وضعيات مدقّقة عن العملات الأجنبية والذهب لدى مصرف لبنان. وأيضاً تعديل بيان الموجز النصف الشهري ليتلاءم مع معايير الشفافية للمصارف المركزية، وتشكيل لجنة لتعديل النظام المحاسبي ليتماشى مع معايير المحاسبة الدولية. وكان سلامة قد ألغى منذ ولايته الأولى نشر أي بيان يتعلّق بـ»صندوق تثبيت القطع» بحجة عدم إطلاع المضاربين على وضعيته، وعاد الى نشر مقنع وملتبس له قبل انتهاء ولايته بعدة أسابيع، كذلك أجرى تمويهات حسابية لإخفاء الخسارات وطمس الارتكابات.

ما كان يجب فعله

لو أعلن نواب الحاكم في أول ظهور صحافي مشترك لهم نشر ذممهم المالية بتفصيلاتها المختلفة لإطلاع الجمهور عليها وعلى تعديلاتها استجابة لتوصية صندوق النقد الدولي في تقريره عن لبنان لعام 2018، لكان من المؤكد أنه سيكون ذا وقع لافت، خصوصاً بعد الاتّهامات المالية المتنوّعة التي أثيرت بوجه الحاكم السابق ومقرّبين منه محلياً وخارجياً. فقرار كهذا إضافة إلى نشر نظام سلوكيات الحاكمية والعاملين في المصرف code d ethique كان سيكون لهما وقع إيجابي مدوٍّ لأنهما سيعتبران بمثابة إعلان عن طي صفحة طارئة مظلمة لم يعرفها مصرف لبنان منذ تأسيسه، ليحل محلّها الالتزام من أعلى الدرج الهرمي بالشفافية والمناقبية والمصداقية.

كذلك كان لافتاً القرار بتزويد الشركة التي قامت بالتدقيق الجنائي في مصرف لبنان بالمستندات التي ذكرت أنها لم تتسلّمها منه، وكان من المستحسن الإعلان بهذا المضمار أن المصرف قد بدأ تحقيقاً ذاتياً وفورياً لملاحقة المسؤولين عن الارتكابات التي قد تتكشّف له.

أيضاً كان لافتاً قرار هيئة التحقيق الخاصة بتجميد الحسابات المصرفية للحاكم السابق ومقرّبين منه على خلفية قرارات تجميد مماثلة اتّخذت في عدد من الدول بتهم عدة، كما برفع السرية المصرفية عن هذه الحسابات.

رواتب الموظفين!

وكان هناك اعتزاز من الدكتور منصوري بالإعلان عن تأمين رواتب وأجور موظفي القطاع العام «بالدولار الفريش» من دون المسّ بالاحتياطي الإلزامي من العملات الأجنبية لديه ومن دون أي تضخّم للكتلة النقدية. أمر انتقده البعض لأن لا صلاحية للمصرف المركزي، حسب قول الاقتصادي Stiglitz، بالتمييز بين فئات الجمهور خصوصاً أن الأمر حصل من دون أن يسبقه تحقيق حول آلاف الأشخاص الذين أدخلوا الى القطاع العام خلافاً للقانون. وكان الأحرى بمصرف لبنان دفع «الدولارات الفريش» التي جمعها والتي سيجمعها في المستقبل لمستحقّيها أي الى أصحاب الودائع الدولارية التي استقطب مصرف لبنان أموالهم من المصارف خلافاً للقانون وأنفقها أيضاً خلافاً للقانون.

منصة بلومبيرغ

كذلك كان هناك زهو بالإعلان عن قرب إطلاق منصة «بلومبيرغ» لتكون متاحة أمام الجميع للتداول بالليرة والدولار بالأسهم والعملات والمعادن وغيرها من الأدوات المالية، بدلاً من «صيرفة» التي أنشأها مصرف لبنان وتم من خلالها تبديد كمّ هائل من دولارات المودعين على فئات من المضاربين المحظوظين.

المنصة الجديدة ستكون شفافة، ما يبعد عن لبنان شبهة تحوّله مرتعاً لتبييض الأموال ويؤسّس نظرياً لتحرير وتوحيد أسعار الصرف وفقاً لآلية العرض والطلب. لكنّ الأسئلة حولها وحول جدواها كثيرة. فكيف يصحّ الكلام عن أهمية الشفافية التي توفّرها المنصة الجديدة وهناك تعتيم مقابل بالتعميم 165 على عدم شفافية عمليات مقاصة الأموال الجديدة التي قرّر مصرف لبنان إجراءها لديه من دون المرور بالمصارف المراسلة؟ ولماذا لم يكن القرار بالعودة الى الوضع الذي أثبت نجاحه لعقود ذهبية أي لبورصة بيروت وردهة تبادل العملات لديها، وقد تم استبعاد إعادة العمل بها بعد فتح البورصة نهاية إغلاقها القسري بسبب أحداث السبعينات والثمانينات الماضية، بقرار واعٍ من المسؤولين هدف الى تكليف مديرية القطع لدى مصرف لبنان بالإعلان اليومي عن سعر ثابت وزائف للدولار بالنسبة لليرة بحجّة أن حجم التعامل ما بين مصرف لبنان والمصارف هو الأكبر والأكثر تأثيراً في تحديد سعر الصرف؟ وهل يجوز بقرار من مجلس الوزراء تجاوز قانون بورصة بيروت الذي يعيّن ردهتها لتبادل العملات؟ وهل وكيف سيكون للأخيرة أو لهيئة الأسواق المالية الإشراف على المنصة الجديدة؟ وما الحلّ إذا لم تتأمّن الدولارات الكافية لتأمين الطلبات عليها؟ هل يعود مصرف لبنان للتدخل من الاحتياطي الإلزامي فتنقض العهود؟ أم يعود مجدّداً الى السوق الموازية لتجميع الدولار ما يدفع لارتفاعات متجدّدة في أسعار صرفه؟...

إلتباسات في مقابلة

بالمقابل يبدو واضحاً من مقابلة الدكتور منصوري مع قناة «العربية» على هامش مشاركته في المؤتمر المصرفي العربي في السعودية وجود التباس لديه بقضايا مفصلية.

ففي موضوع سعر الصرف الرسمي ذكر في المقابلة أن سعر 15 ألف ليرة للدولار الواحد تحدّد في قانون موازنة 2022 وليس مصرف لبنان هو من حدّده حتى يغيّره! والصحيح أن السعر الأخير تقرّر لقضايا جمركية خلافاً للأصول التي تقضي باحتساب الدولار الجمركي كمتوسط لأسعار الدولار لفترات سابقة ويعلن السعر الوسطي المصرف المركزي. لاحقاً وسريعاً ظهر تباين بين وزير المالية ورئيس الحكومة بشأن سعر الدولار، فذكر الأول أنّ المصرف المركزي سيتبنّى سعر 15 ألف ليرة للدولار كسعر صرف رسمي جديد بعد شهر، ثم عدل عن ذلك للقول إن هذا الأمر مرتبط بإقرار خطة التعافي. أما الرئيس ميقاتي فذكر أن تطبيق سعر 15 ألف ليرة للدولار سيكون تدريجياً مع استثناءات. وجميع التصريحات السابقة لا تتماهى مع إعلان الحاكم السابق سلامة لعقود بأن سعر الصرف الرسمي يحدّده مصرف لبنان بالاستناد الى عمليات المصرف مع المصارف!

منحى الالتباس ظهر أيضاً بموضوع استعادة المودعين أموالهم. ففي تصريح سابق أعلن منصوري أن لا جواب لديه على هذا الموضوع! لكنه عاد وذكر في المقابلة التلفزيونية «إن مصرف لبنان سيتجنّد لوضع الإطار القانوني (مع الحكومة والمجلس النيابي) لإعادة الودائع» من دون أي تفصيل.

وأضاف «إن إعادة تقييم المصارف تندرج في إطار ورشة تشريعية لإقرار من سيتحمّل الخسارة، وهي مرتبطة بالتوازن المالي لتحديد الفجوة والمسؤوليات وبالمصارف التي ليست لها القدرة على إعادة الودائع. وبعد التقييم نستطيع أن نعرف من المصارف التي ستبقى ومن لا تستطيع ذلك، والأخيرة هي التي تحال الى الهيئة المصرفية العليا، لكن لن تبدأ الإحالة قبل ذلك».

كلام في منتهى الخطورة لأنه يعني استنساب عدم تطبيق أحكام قانونية نافذة بالتحديد المادة 208 من قانون النقد والتسليف لحين صدور قانون مستقبلي، ولحين ذلك يستمرّ المصرف التجاري بإدارة من فقدوا الأهلية لإدارته لعدم تمكّنهم من إعادة تكوين مراكز نظامية وقانونية أهمها الرأسمال.

لا يستخدمون صلاحياتهم

مصرف لبنان وحاكمه بالتحديد يتمتّعان بصلاحيات واسعة، فالأخير يرأس السلطة الناظمة لشؤون المصارف وهو المشرف على أداء لجنة الرقابة على المصارف وهو رئيس هيئة التحقيق الخاصة وأيضاً رئيس الهيئة المصرفية العليا التي تقرّر العقوبات بالمصارف المخالفة.

ويمكن لمنصوري وزملائه الاستفادة من الأمر بإطلاق حملة إصلاح مصرفي شامل، لأنهم يملكون التقرير في كافة متطلبات هذه الحملة وأهمها تعيين مدير مؤقت للمصرف الذي تخلّف عن تسوية أوضاعه، يدقّق في جميع عملياته لتحديد وضبط الانحرافات المرتكبة وما إذا كانت تتضمّن إفلاسا احتيالياً لإحالة الملف الى القضاء.

والأمر حصل مع مصرفين حاججت إدارة أحدهما بأنها وضعت 80% من موارد المصرف لدى مصرف لبنان!!!. وأي تأخير في ذلك سيرتّب مسؤولية قانونية عن تفاقم الأوضاع وسيكون خرقاً للتعهّد العلني باحترام القانون، وهو ما حصل حقيقة وللأسف بالتقاعس بإعادة النظر بالتعاميم المصدرة بعد اندلاع الأزمة وحتى قبلها، فغالبيتها تستند الى تفسير مشوّه لمواد قانون النقد والتسليف التي تم الاستناد اليها في إصدار هذه التعاميم يناقض شروحات الأسباب الموجبة للقانون لهذه المواد.

التعميم 158

وهذا ما حصل مع التعميم 158 إذ تم التعامل معه وكأنه غير مشوب بأي عيب قانوني، فشدّدت قبل أيام التقييدات التي يتضمّنها على المودعين بتخفيض مقدار سحوباتهم الشهرية بمقتضاه من 400 دولار الى 300 دولار، من دون أي شرح للأسباب تنفيذاً للعهد بالتزام الشفافية الذي أطلقه منصوري في المؤتمر الصحفي الذي عقده يوم غادر سلامة المصرف وما يفعله عادة القيّمون على مصارف مركزية رائدة كالبوندنسبنك والمصرف الوطني السويسري والمصرف المركزي الأوروبي حيث يصدرون البيانات الخطية ويعقدون المؤتمرات والندوات لشرح مسهب لحيثيات ومآل القرارات التي يتّخذونها للجمهور.

مقارنة مع أزمتين: آيسلندا وفرنسا 

عند حصول الأزمة الآيسلندية، التي تتشابه مع الأزمة اللبنانية بعدة أمور، تمّ سريعاً خلال أيام معدودة تعيين مديرين مؤقتين لكل مصرف من مصارفها الكبرى الثلاثة، واحد لمتابعة الأعمال اليومية مع المودعين والعملاء بدون أي استنسابية والثاني مهمته الانكباب على تلمّس فرص الخروج من الأزمة مع المعنيين. أيضاً عالج الرئيس الفرنسي Vincent Auriol الأزمة المصرفية في بلاده، وكان وقتها وزيراً للمالية، بسرعة وبنجاح قياسيين. إذ دعا المصرفيين الى اجتماع موسع أبلغهم فيه بضرورة استعادة مصارفهم مراكزها النظامية والقانونية ضمن مهلة محددة. سيقوم بنهايتها بزجّ المتخلّفين في السجن ومصادرة جميع ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة داخل البلاد وخارجها. فلم يتخلّف بانتهاء المدة سوى عدد قليل لم يتجاوز عددهم أصابع اليدين. ويتناقل الفرنسيون من بعده قوله المأثور بهذه المناسبة والذي كان عنواناً للمرحلة الثانية من خطته: المصارف ستقفل وأصحابها سيزجّ بهم في السجن!

Les banques seront fermées et

les banquiers seront enfermées

في لبنان الأمور سارت بشكل مناقض، فلم يفرض الكابيتال كونترول فور اندلاع الأزمة كما هو مألوف وآخر أمثلته روسيا وأوكرانيا وسريلانكا. وتركت المصارف اللبنانية، باستنسابية مقيتة، أصحاب النفوذ والسياسيين وبينهم العديد إن لم تكن الغالبية من النواب والوزراء يقومون بتحويل ما شاؤوا من أموال للخارج مع تقييد صارم مقابل على سحوبات وتحويلات المودعين العاديين، وجرت الأمور على مرأى ومسمع مصرف لبنان دون تحريك ساكن لعدة أشهر.

يؤسسون للتهرّب من المسؤولية

إن مشاريع القوانين التي ربط وسيم منصوري وزملاؤه بقاءهم بإقرارها ليست إصلاحية، فهي تؤسّس بوضوح للتهرّب من المسؤوليات القانونية وتمويه الانحرافات والحفاظ على الأرباح الخيالية التي تحقّقت من الرّبا الفاحش للهندسات المالية، والتي يمكن إعادة النظر بكل وقت بعقودها لتصحيح انحرافاتها. وإقرار مشاريع القوانين لو حصل سيكون من قبل مجلس نواب أغلبية أعضائه، إن لم يكن جميعهم كما أعضاء الحكومة، من الذين سحبوا أموالهم من المصارف أو قاموا بتحويلها للخارج مستندين إلى امتيازاتهم التمثيلية ما يجعلهم غير مؤهلين قطعاً للبت في مشاريع القوانين المطروحة على أساس «تعارض المصالح» والأمر سيثار بالطبع أمام المجلس الدستوري عند الطعن بها في حال إقرارها.

(*) أستاذ محاضر في قوانين النقد والمصارف المركزية