المصدر: المدن
الكاتب: علي نور الدين
الأحد 18 أيلول 2022 14:42:54
في أواخر الأسبوع الماضي، أصدر المصرف المركزي ميزانيّته النصف الشهريّة، التي ينشرها في منتصف وآخر كل شهر. أرقام الميزانيّة، التي تظهر وضعيّة مصرف لبنان الماليّة كما في منتصف شهر أيلول الماضي، كشفت هذه المرّة حقيقة مقلقة للغاية في ما يخص حركة السيولة بالعملة المحليّة. إذ سجّلت الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة خارج مصرف لبنان، أي حجم السيولة الورقيّة بالليرة، زيادة كبيرة بنحو 1.7 ألف مليار ليرة، خلال النصف الأوّل من شهر أيلول وحده. وبصورة أوضح، وخلال فترة 15 يومًا فقط، ارتفع حجم الكتلة النقديّة بنسبة 4%، ليتجاوز في منتصف أيلول حدود 45 ألف مليار ليرة لبنانيّة، بعد اقتصر في بداية الشهر على نحو 43.39 ألف مليار ليرة.
دلالات تضخّم الكتلة النقديّة
هذا التحوّل الحسّاس، الذي طرأ خلال الشهر الحالي، يؤشّر إلى بعض التحوّلات الخطيرة في السياسة النقديّة لمصرف لبنان. فمنذ بداية العام، تمكّن مصرف لبنان من امتصاص جزء كبير من السيولة المتداولة بالليرة، عبر ضخ الدولار وبيعه مقابل الليرات الورقيّة، أو عبر تقاضي ثمن الدولارات المُباعة لمستوردي البنزين بالليرات الورقيّة أيضًا. لكن على ما يبدو، وبالتوازي مع توقّف مصرف لبنان عن بيع الدولارات لمستوردي البنزين من خلال منصّة صيرفة، ومع تراجع قدرته على ضخ الدولارات من خلال المنصّة عبر فروع المصارف، عادت الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة للتضخّم من جديد وبشكل سريع جدًّا في النصف الأوّل من الشهر الحالي.
وكما كان واضحًا، ترك هذا التحوّل الحسّاس -أي تضخّم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة- أثرًا بالغًا على قيمة الليرة في السوق الموازية خلال النصف الأوّل من شهر أيلول. إذ ارتفع سعر صرف الدولار في السوق الموازية خلال هذه الفترة بالتحديد من 31,100 ليرة في أواخر شهر آب، إلى حدود 38,000 ليرة في منتصف أيلول. فكما هو معلوم، ونتيجة تدنّي الثقة بمستقبل العملة المحليّة، باتت أي زيادة في حجم السيولة المتداولة بالليرة تعني تلقائيًّا ارتفاع الطلب على الدولار الأميركي في الأسواق، وهو ما يُترجم سريعًا بارتفاع مباشر في سعر صرف الدولار في السوق، وهذا تحديدًا ما جرى خلال الشهر الحالي.
على أن أخطر ما في الموضوع، يكمن في أنّ قيمة الكتلة النقديّة الإجماليّة عادت بعد هذه الزيادة في حجمها خلال أيلول إلى مستويات قريبة من قيمتها في بداية العام، قبل أن يدخل مصرف لبنان مسار ضخ الدولار وامتصاص السيولة بالليرة اللبنانيّة. أي بمعنى آخر، كل ما أحرقه مصرف لبنان من دولارات في هذه العمليّات، خلال تسعة أشهر ونصف الشهر، في سبيل السيطرة على حجم الكتلة النقديّة بالليرة في السوق وضبط سعر صرف الدولار، ذهب سُدًى خلال فترة قصيرة جدًّا، بمجرّد استنفاد قدرة مصرف لبنان على التدخّل في السوق. وبذلك، كانت النتيجة الوحيدة لهذا التدخّل تناقص احتياطات المصرف المركزي لا أكثر، من دون أن يحقق تدخّل المصرف أي أثر مستدام على مستوى حجم كتلة السيولة المتداولة بالليرة.
حجم تراجع الاحتياطات
وحين نتحدّث عن حرق الدولارات سُدًى منذ بداية العام، فنحن نشير إلى ما يقارب 3.2 مليار دولار من السيولة بالعملة الصعبة، التي تم استنزافها من احتياطات مصرف لبنان، بين بداية العام ومنتصف شهر أيلول. مع الإشارة إلى أنّه وحسب الميزانيّة التي جرى نشرها في أواخر الأسبوع الماضي، بلغت قيمة احتياطات مصرف لبنان المتبقية في منتصف أيلول نحو 9.6 مليار دولار فقط، ما يشير إلى أنّ المصرف المركزي أنفق خلال النصف الأوّل من شهر أيلول نحو 125 مليون دولار من احتياطاته. وهذا الاستنزاف المستمر في الاحتياطات يبقى ملتبسًا في الوقت الراهن، إذا ما أخذنا بالاعتبار انسحاب المنصّة التدريجي من مهمّة تمويل استيراد البنزين، وتقلّص عمليّات بيع الدولار عبر الفروع المصرفيّة، ما يطرح السؤال عن هويّة المستفيدين الفعليين من دولارات الاحتياطي التي يتم بيعها حاليًّا.
من ناحية أخرى، تشير الميزانيّة النصف شهريّة إلى أنّ قيمة احتياطي الذهب المملوك من المركزي انخفضت لغاية منتصف شهر أيلول إلى نحو 15.55 مليار دولار، مقارنةً بـ15.99 مليار دولار في بداية الشهر، وأكثر من 16.6 مليار دولار في بداية العام. وبهذا، تكون احتياطات الذهب قد خسرت منذ بداية السنة نحو 1.02 مليار دولار من قيمتها، نتيجة تراجع أسعار الذهب العالميّة. مع الإشارة إلى أن قيمة احتياطي الذهب مع احتياطي العملات الأجنبيّة معًا، اللذين يمثّلان كامل موجودات المصرف السائلة، باتت تبلغ 25.17 مليار دولار، أي ما يوازي 15% فقط من إجمالي موجودات المصرف المركزي.
في خلاصة الأمر، وسواء في ما يتعلّق باستمرار التذبذب في قيمة الكتلة النقديّة المتداولة، أو باستمرار تناقص احتياطات المصرف المركزي، تعكس كل هذه التطورات استمرار الوضع المأزوم للمصرف المركزي، واستمرار التخبّط الذي يحكم معالجاته وسياساته النقديّة. وهذه الحالة، تعكس بدورها غياب الإطار الأوسع للمعالجات، الذي كان من المفترض أن تتكامل فيه السياسة النقديّة مع الخطط الماليّة والاقتصاديّة التي تشرف عليها السلطة التنفيذيّة.