مصرف لبنان يطلق التقرير الاقتصادي الكلّي: 6.4% نمو متوقّع في 2025 بعد انكماش

ضمن نهج ونمط مصرف لبنان الجديد المتبّع منذ تعيين كريم سعيد حاكمًا لـ"المركزي" في آذار الماضي، وفي ظلّ عدم وجود داتا وإحصاءات اقتصادية دقيقة، أطلق مصرف لبنان أمس التقرير الاقتصادي الكلّي Macroeconomic review الأوّل من نوعه الذي يعتبر مرجعًا يمكن الإستناد اليه .

يهدف التقرير كما عرض نائب حاكم مصرف لبنان سليم شاهين ورئيس قسم الإحصاءات والأبحاث الاقتصادية في مصرف لبنان شكري مونّس ومديرة فرع في قسم الإحصاءات سناء سعيد جاد إلى تزويد الأسواق والهيئات الرقابية والمصارف وصنّاع القرار والمواطنين بمجموعة موحّدة من المؤشّرات الاقتصادية الكلّية فضلًا عن تحقيق الشفافية. وقدّ حصل فريق العمل على استشارة تقنية من صندوق النقد الذي سيمهر ختمه عليه في النهج المعتمد.

يتألف الـ Macroeconomic review الذي عمل عليه نحو 30 موظفًا في مركز الإحصاءات والأبحاث في مصرف لبنان لفترة شهرين، من 44 صفحة وهو عبارة عن مؤشّر مركّب synthetic indicator يعطي صورة مبسّطة وملخّصة عن الوضع الاقتصادي في البلد بعد الأزمة المالية والاقتصادية وسيصدر مرتين في السنة أي كلّ ستة اشهر علمًا أنه لم يتمّ التطرّق في التقرير إلى الإحصاءات التي تتعلق بالأداء المالي للدولة والدين أي للاقتصاد الحقيقي reel sector . وسيلي هذا التقرير تقريران آخران، أحدهما كان يصدر في السنوات السابقة منذ العام 1993 إلا أنه توقّف إصداره في آب 2022 لأنه لم يعد يعكس الواقع الاقتصادي في ظلّ تخبّط البلاد بالانهيار المالي والاقتصادي، علمًا أنه أجريت تعديلات عليه بالتعاون مع صندوق النقد الدولي الذي أعدّ البروتوكول فقط، فيما إنجازه يقوم به مصرف لبنان. 

مضمون التقرير  

يتضمّن تقرير ااقتصاد الكلّي، التطوّرات الاقتصادية محليًا وخارجيًا، والتوقّعات العالمية والإقليمية. وأعطى نظرة عامة عن اتجاهات النمو ومحركاته، والأداء القطاعي الصناعي، التجارة، الإنشاءات، الفنادق والمطاعم ومراجعة للتضخّم. كما تناول إلى القطاعات التي تشهد ارتفاعًا في الأسعار ولمحة عن الوضع النقدي، هيكل القطاع المصرفي والنشاط شبه المصرفي والوضع النقدي والعملة المتداولة وأسعار الفائدة. وتمّ إدراج التعميمين 166 و158 الصادرين عن مصرف لبنان سابقًا حول إعادة أموال المودعين بشكل تدريجي، فضلًا عن إعطاء لمحة عامة عن ميزان المدفوعات، الحساب الجاري وحساب السلع والخدمات والدخل والتحويلات ورأس المال والحساب المالي...

بوادر انتعاش مبكّرة 

جاء في الملخّص التنفيذي للتقرير إن الاقتصاد اللبناني بدأ يُظهر بوادر انتعاش مبكرة في النصف الأول من العام 2025، بعد سنوات من الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والمالي. رافق ذلك عدم استقرار سياسي، وحرب تصاعدت وتيرتها إلى حرب شاملة في منتصف أيلول 2024، وانتهت بوقف إطلاق النار في 27 تشرين الثاني 2024. وقد دُعم هذا الانتعاش الهش إلى حد كبير بالاستقرار السياسي الأخير، بما في ذلك انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، وتشكيل حكومة، وتعيين حاكم لمصرف لبنان. وأدت هذه التطورات المؤسسية إلى تحسين معنويات السوق، وتقليص حالة عدم اليقين السياسي، وتمكين عودة المؤسسات إلى العمل بشكل طبيعي، مما وفّر أساسًا حذرًا ولكنه حيوي للتعافي.

أضاف، في حين تشير المؤشرات المحلية إلى تقدم حذر، إن التعافي في لبنان حلّ في سياق عالمي وإقليمي مليء بالتحديات. على الصعيد العالمي، من المتوقع أن يتباطأ النمو حتى مع انخفاض التضخم عن ذروته الأخيرة، في حين أن الحروب التجارية وتوقعات اعتماد التيسير النقدي (خفض أسعار الفائدة أو زيادة المعروض النقدي) في الولايات المتحدة تُضعف الدولار. بالنسبة إلى لبنان، تُمثل هذه الخلفية تحدّيات خطيرة بالنظر إلى نقاط الضعف القائمة: انخفاض قيمة الدولار الأميركي مقابل اليورو والعملات الرئيسية الأخرى قد يرفع تكاليف الاستيراد، مما يزيد من الضغوط التضخمية ويؤثر سلبًا على الأسر والشركات. لا تزال التوترات الإقليمية مرتفعة، ويرجع ذلك أساسًا إلى الحرب المستمرة في غزة، والهجمات العسكرية في جنوب لبنان، وأزمة اللاجئين السوريين، التي لا تزال تُقوّض الأمن والآفاق الاقتصادية. هذه العوامل مجتمعةً شكَلت ضغطًا كبيرًا على توقعات التعافي الهشة في لبنان.

نمو الناتج الحقيقي 

إلى ذلك أورد التقرير الصادر باللغة الإنكليزية أنه "بعد انكماش بنسبة 6.4 % في العام 2024، وفقًا لتقديرات مصرف لبنان، من المتوقع أن يعود الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي إلى نمو متواضع في العام 2025، مدعومًا بالتقدم السياسي، والسياحة، والاستهلاك المحلي. تُعزز مؤشرات القطاع الحقيقي هذا التفاؤل الحذر، فتحول تقرير مصرف لبنان المركّب للأعمال إلى إيجابي في النصف الأول من عام 2025، مما يعكس تحسنًا تدريجيًا في التجارة والسياحة.

وفي ما يتعلّق بالتضخّم، فقد انخفض التضخم العام كما جاء في التقرير إلى 15 % على أساس سنوي في حزيران 2025 من 41.8 % في حزيران 2024، مدفوعًا باستقرار سعر الصرف، وتحسّن الانضباط المالي، وتشديد السياسة النقدية. ومع ذلك، لا يزال التضخم الأساسي مرتفعًا عند نسبة 16.4 %، مما يشير إلى أنه على الرغم من اعتدال الأسعار المستوردة، إلا أن الضغوط المحلية الكامنة لا تزال قائمة.

القطاع المصرفي

بالنسبة إلى القطاع المصرفي، لا يزال يعاني بشدة من خسائر فادحة. إذ منذ العام 2019، أدّت الأزمة المالية التي لم تُحل، والتأخيرات في إعادة هيكلة القطاعين العام والمالي، إلى انكماش حاد في تواجد المصارف التجارية، مع تقلص شبكات الفروع بنحو 40 %، وانخفاض التوظيف في القطاع إلى النصف تقريبًا. في موازاة ذلك، توسّعت القنوات المالية غير المصرفية بشكل ملحوظ. تجدر الإشارة إلى أن مؤسسات العمليات الإلكترونية ونقاط الوصول إلى النقد ازدادت بشكل كبير بين عامي 2019 و2025، مما يؤكد التحول الهيكلي نحو المعاملات النقدية والاعتماد المتزايد على المؤسسات غير المصرفية الخاضعة للتنظيم.

وتشير الأرقام إلى أن ميزانيات البنوك التجارية انكمشت بين حزيران 2019 وحزيران 2025، بنسبة نحو 60 %، مع انخفاض المطالبات على العملاء إلى 5.5 مليارات دولار ، بينما بلغ حجم القروض الجديدة 553 مليون دولار، مما يؤكد محدودية دور الوساطة. كما بلغت ودائع الـ "فريش" 4.4 مليارات دولار في نهاية شهر حزيران، وبقيت مُخصصة بالكامل بموجب تعميم مصرف لبنان رقم 150، مما يوفر دعمًا محدودًا لنمو الائتمان.

دور مصرف لبنان 

في ظل هذه الخلفية، وفي ظل غياب خطة إنعاش حكومية موثوقة، اضطلع مصرف لبنان بدور محوري في إدارة الأزمات. في السنوات الأخيرة، أولى مصرف لبنان الأولوية لحقوق المودعين، وحافظ على استقرار القطاع المصرفي، وخفّف من تقلبات سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار. ولتعزيز السيولة والملاءة المالية، أصدر البنك المركزي عدّة تعاميم، أبرزها التعميم رقم 154 في آب 2020، والتعميم رقم 158 في حزيران 2021، والتعميم رقم 166 في شباط 2024، والتي سهّلت عمليات السحب التدريجي للودائع المقوّمة بالدولار الأميركي بترتيبات محددة. ورغم أن هذه الإجراءات وفّرت ما يقارب 4.2 مليارات دولار من الودائع الجديدة بالعملة الخضراء، وقدّمت راحة موقتة للمودعين، إلا أنها لا تغني عن استراتيجية شاملة لإعادة الهيكلة.

الحساب الجاري والاحتياطيات

أظهر القطاع الخارجي أن عجز الحساب الجاري انخفض إلى 5.6 مليارات دولار في العام 2024 مقارنةً بـ 5.9 مليارات دولار في العام 2023، مدفوعًا بشكل كبير بانخفاض الواردات، في حين خففت التحويلات الصافية البالغة 5 مليارات دولار الضغوط، لكنّها عززت الاعتماد على تدفقات المغتربين.

في موازاة ذلك، ارتفعت احتياطيات مصرف لبنان السائلة من العملات الأجنبية (باستثناء الذهب) إلى 11.3 مليار دولار في منتصف العام 2025، مدعومةً بتوقّف مصرف لبنان عن التدخلات المكلفة في سوق العملات الأجنبية، ورفع الدعم، ووقف التمويل الحكومي المباشر. كما ارتفعت احتياطيات مصرف لبنان من الذهب بنسبة 41 % على أساس سنوي لتصل إلى 30.28 مليار دولار في نهاية حزيران 2025، مدفوعةً بارتفاع أسعار الذهب العالمية.

بعد إدراج لبنان على القائمة الرمادية من قِبل مجموعة العمل المالي في تشرين الأول 2024، بادر مصرف لبنان، بالتنسيق مع هيئة التحقيق الخاصة، إلى تطبيق سلسلة من إجراءات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب لتعزيز الامتثال للمعايير الدولية والمساعدة في استعادة الثقة في النظام المالي والاقتصادي ككل.

تقدّم في التشريع المالي 

علاوة على ذلك، سجلت السلطات تقدمًا ملحوظًا في تشريعات القطاع المالي خلال النصف الأول من العام 2025، حيث عدّل مجلس النواب قانون السرّية المصرفية في نيسان، مما يُمثل خطوة مهمة نحو تعزيز الشفافية والمساءلة. في الوقت نفسه، تقدّمت القوانين ومشاريع القوانين المتعلقة بإعادة هيكلة المصارف ومعالجة خسائر القطاع المالي ("قانون الاستقرار المالي واسترداد الودائع") نحو إقرارها. تُشكّل هذه المبادرات مجتمعةً ركائز أساسية لاستراتيجية التعافي المالي الأوسع نطاقًا، وتتماشى بشكل عام مع أفضل الممارسات الدولية.

وأخيرًا، في حين لا تزال مؤشرات المخاطر السياسية والاقتصادية في لبنان مرتفعة، مما يعكس استمرار نقاط الضعف الهيكلية وعدم اليقين السياسي، فإن الزخم التشريعي الأخير والتقدم المؤسسي يُشيران إلى نقطة تحول محتملة. وإذا استمرت هذه الجهود واستكملت بتنفيذ إصلاحات إضافية في الوقت المناسب، سترسل إشارة قوية مفادها أن الأسس اللازمة لانتعاش أكثر استدامة وشاملًا يجري وضعها.

يغطّي إذًا التقرير كل الجوانب الأساسية للوضعين الاقتصادي والمالي في لبنان رغم أن بعض المعلومات مستمدّة من السوق وقد لا تبلغ دائمًا مستوى الدقّة الذي نسعى إليه ولكن من واجب المصرف نشرها تعزيزًا للشفافية، كما خلص المحاضرون.