معابر الحدود الشمالية الشرقية: إرادة صلبة للجيش في سحق "إمبراطوريات الظل"

هذا ليس تقريراً، بل إعلان نهاية. على الشريط الحدودي بين القاع والهرمل، حيث كانت السيادة حلماً، اتخذ الجيش اللبناني قراراً سيادياً لا يُقاس بحجم الصخور أو ارتفاع السواتر الترابية، إنه قرار سحق "العُرف الموروث" الذي حكم هذه المنطقة لعقود طويلة.

لقد أُغلقت معابر لم تُقفل يوماً منذ فتحها، في عملية تتجاوز البُعد الأمني لتلامس عمق الكرامة الوطنية.

الجولة الميدانية لـ"النهار" على هذه المواقع تؤكد أن الإنجاز حاسم ونهائي. ففي كل نقطة إغلاق، مركز عسكري لبناني ثابت، شاهد على تحول هذه المنطقة من "ساحة عبور" إلى "جبهة سيادة".

الضربة القاصمة

الإغلاق لم يكن عشوائياً، بل استهدف شرايين "إمبراطوريات الظل" التي حكمت التهريب، من مواقعها التاريخية المتنوعة في الشمال الشرقي:

أولاً: معاقل التهريب الثقيل (جنوب الهرمل وشمالها)

-  معبر "جسر حيدر" أو معبر "مخيبر" وهو رمز الانهيار.

يقع في حوش السيد علي، وكان لعقود يمثل المركز العصبي للتهريب الأشد فتكاً، وهو مسؤول عن 80% من الممنوعات القاتلة (مخدرات، سلاح، سيارات مسروقة). أقفل بقرار من مديرية المخابرات، بعد توقيفها صاحبه ع.ح.ن في الثامن من آب الفائت، ما أدى إلى إغلاقه نهائيا، واقتلع الجسر من أساسه بالكامل، ماحياً بذلك ذاكرة التهريب، فتحول الموقع إلى منطقة حظر مطلق، "ممنوع على النمل أن يمر منه".

-  معبر العريض: تملكه عائلات من آل جعفر وآخرون، كان شبه رسمي للبضائع المهربة قبل سقوط النظام السوري، يُستخدم لتهريب مختلف أنواع البضائع والسيارات، وقد تم إنشاء مركز ثابت للجيش عنده، ما أدى إلى وقف نشاطه في شكل شبه كامل.

-  معبر الحج محمد جهة القصر - مطربا: يملكه آل جعفر. كان مخصصاً لتهريب كميات هائلة من المازوت والمحروقات بالشاحنات، أُقفل إثر مداهمة نفذها الجيش في شباط الفائت، وتزامن ذلك مع تشديد رقابة المخابرات، ما حال دون إعادة استخدامه.

-  جسر بيت الجمل لجهة القصر - قبش: يملكه آل الجمل، ويستخدم لتهريب بضائع، ماشية، محروقات (قوارير غاز)، ومخدرات، تم إقفاله نتيجة إجراءات ميدانية من الجيش، ولا يزال مقفلًا حتى اليوم بفضل الجهود المتواصلة للمخابرات والجيش، رغم وجود بعض محاولات الخرق المحدودة من المعنيين بالمعبر، ما يستدعي استمرار التشدد والمراقبة.

ثانياً: معابر القاع ومشاريعها

تم إحكام السيطرة على مجموعة من المعابر شكلت شبكة متكاملة للعبور غير الشرعي، أبرزها: الفتحة (الأهم)، المطلبة، بيت حمدان، المعراوية، شحيط الحجيري، النعمات، والمشرفة. ورغم صعوبة ضبط كل النقاط، الحزم الاستخباري واضح، خصوصا مع الجهد المتقدم للجيش في المناطق المرتفعة.

ويشير مصدر أمني لـ"النهار" إلى أن الإغلاق المادي خطوة، لكن التحدي الحقيقي يكمن في استدامة الحراسة، وهو ما يولّد الإجهاد العملياتي (Operational Fatigue).

هذا الإنجاز ثمرة تنسيق عالي المستوى على صعيد الجيش اللبناني ومديرية المخابرات، إذ تُثبّت السيادة يومياً رغم محدودية الإمكانات، عبر ملاحقة مستمرة لأي فتحة حدودية يُعاود المهربون فتحها فيجري إقفالها فوراً في لعبة كرّ وفرّ لا تهدأ، وهذا الانتشار الدائم في ظروف قاسية هو التكلفة البشرية الحقيقية لقرار السيادة.

شبكات التهريب في ظل التحولات الأمنية وتغيّر المشهد الحدودي إثر فقدان سيطرة النظام السابق وانتقال السلطة إلى الأمن العام السوري، أعادت رسم خريطتها، فظهرت "نقاط ظلّ" جديدة، وتحوّلت مسارات التهريب في اتجاه القاع ومشاريعها. وهذا الواقع يستدعي جهداً استخبارياً مضاعفاً ومراقبة مستمرة لاحتواء هذا التكيف المستمر.

ويشهد الوضع الأمني تحوّلاً نوعياً خلال الأشهر الخمسة الأخيرة، بفعل جهد استخباري مكثّف تقوده مديرية المخابرات. فالمقاربة لم تعد تقليدية، بل باتت استباقية تركّز على تفكيك شبكات التهريب، من خلال ملاحقة كبار المهربين، وقد تُرجِم هذا التحول على الأرض بانحسار ملحوظ لحركة التهريب، ما يؤكد تغيّراً جذرياً في آلية المواجهة الأمنية.

رغم نجاح الجيش في تقليص حركة التهريب إلى مجرد "رمي يدوي خلف الساتر"، ما يُعدّ دليلاً على فاعلية الضبط الميداني، فإن هذا لا يكفي. فالجغرافيا في ذاتها تشكل تحدياً مستمراً، إذ لا يمكن الجيش نشر جندي كل 5 أمتار. لذا، تصبح الحاجة ماسة إلى تعزيز المراقبة الجوية واستخدام الطائرات المسيّرة (الدرون) كجزء أساسي من المعركة ضد التهريب.

سؤال "الخبز اليومي"

السؤال غير المعلن هو: كيف يرى الأهالي هذه الخطوة؟ هل كانت المعابر المغلقة مصدر رزق أو مجرد خطر أمني؟

سكان القرى الحدودية يواجهون الأمر بمشاعر مختلطة. فمن جهة، يؤكدون لـ"النهار" إحساسهم بتحسن الأمن المحلي بعد تراجع حركة الغرباء، وضبط الحدود بشدة بعد الإشكالات بين المهربين من العشائر والأمن العام السوري، ومن جهة أخرى، هناك من فقدوا مصدر رزقهم، "كثيرون من شبابنا كانوا يعملون في نقل البضائع غير الممنوعة، حتى لو أن أرباحهم قليلة، غير أنها كانت تؤمن لهم الخبز في ظل الأزمة".

الجولة الميدانية لـ"النهار" تؤكد أن ما تحقق في البقاع الشمالي هو إنجاز سيادي أُوقف "عُرف الحدود" بقرار حاسم، لكنه لا يكفي وحده لضمان الاستقرار.

فترسيخ السيطرة يتطلب مقاربة متكاملة تشمل تنمية اقتصادية واجتماعية للمجتمعات الحدودية، توفر بدائل فعلية عن اقتصاد التهريب. كما أن إشراك المجتمع المحلي في الرقابة والدعم الأمني يعزز فاعلية هذا الإنجاز، ويحوّله من إجراء ميداني إلى سيادة مستدامة، لا خط دفاع موقت.