المصدر: Kataeb.org
الكاتب: جورج شبلي
السبت 17 أيلول 2022 11:28:52
كتب الدكتور جورج شبلي:
إذا عُدنا الى مَصنوعِ الحياة، والذي يُستَنخَبُ من مَعادِنِهِ مُدهِشاتٌ، يَرشَحُ خَبَرُ النّاسِ في أزماتِهم، كما في نَعيمِهم، وينفسحُ المجالُ لِآثارِ الأيامِ في سحرِها، كما في شَوكِها. هكذا لبنان، لا يمكنُ الإدّعاءُ بأنّ تاريخَه لم يكنْ فيه مَقتَل، واستسلامٌ لتَبديدِ ظروف، كما يستحيلُ التّغافلُ عن قاماتٍ لمّا تزلْ حاضرةً في الضّمائرِ، وإِن غابَ رَسمُها.
بشير الجميّل الذي استُقبِلَ بَطَلاً في جنّةِ الوطنِ، لم يكنْ كَمُّ تَعاطيهِ مع ناسِهِ ضجيجاً، فبينَه وبينهم دُنُوُّ دارٍ وقُربُ محلّ، لِذا، دخلَ في مدارِجِ أنفاسِهم سِحراً لم يأكلْهُ النّسيان. فهذا الرَّجُلُ المُشاغِبُ، أخرجَ قضيّةَ وطنِهِ من المُعتَقَل، بعدَ أن خَمُلَت ورَمَدَت عيناها، فأَعملَ المِبضَعَ في أجسادِ المكائدِ، والدّسائس، وعصاباتِ المتسلّطين، وأركانِ الفساد، وقُطّاعِ الطّرقِ، ومحميّاتِ النَّهب، وأماطَ اللِّثامَ عن شكاوى النّاس، ومظالمِهم، واجتهدَ لرَفعِ الضَّيمِ عن الكيان، فتلوَّنَت جرأتُهُ بشموخٍ لم ينبعْ إلّا من وجدانٍ وطنيٍّ صادِق.
بشير الجميّل الذي فرضَعليهِ الغَدرُ قِصَرَ إِقامةٍ، لِخَطَرِهِ، لم يتوجَّبْ عليهِ ملازمةُ الوقتِ حتى يلتصقَ بقلوبِ النّاس، هؤلاءِ الذين أسرعوا الى الأُنسِ بهِ عندَ أوّلِ لقاء، ولم يرغبوا استبدالَه بغَيرِهِ من الأُلّاف، لِوُلوعٍ بهِ لا يزالُ يُطرِقُهم حتى اليوم. ولم يعرفِ التاريخُ بشيراًيُشبِهُهُ إِلّا القليل، دامَ تَلَهُّفُ الناسِ إليه، وما واتَتهم نفسُهم على سواه. وهو، وإِنْ لَفَّتهُ الغربةُ في وحشةِ الرّحيل، لم يبرَحْ رُقعةَ زمنِ لبنان، وكأنّ الأَجَلَ لم يُوافِهِ، فولاؤُه الصّافي، واندفاعُهُ الشَّرِسُ للوطن، واتّصالُهُ بجِلدِ النّاسِ، لا التَحَجُّب، هي أصلُ صيانةِ بقائِهِ، انتصاراً للكرامةِ الغَضبى التي لم يكنْ للخَوفِ سلطانٌ يحكمُها.
بشير الجميّل الذي آمنَ بأنّ البَعثَ ليس مستحيلاً، استطاعَ ، وحدَهُ، أن يبرهنَ على ذلك، وبأيّامٍ معدودات. فالإنحطاطُ المُنحَرِفُ الذي درجَت عليهِ مِشيةُ المجتمع، واعتادَهُ الحُكّامُ فساداً، وقهراً، وتجاوزاً للقوانينِ والأَعراف، خاطَ له بشير كَفَناً مهَّدَ له السّبيلَ الى بابِ جهنّم. إنّ مواجهةَ بشير لواقعِ الوطنِ المأسَويّ، لم يكنْ أَجرَأَ منه مَغزًى، وأًصدَقَمنهُ حِسّاً، حتى سرى ما قالَه، في طلّاتِهِ، مسرى المَرجعِ في الوطنيّات، والذي لن يزولَ طالما في النّاسِ نَبضٌ يُنتِجُ وفاءً.
بشير الجميّل القائدُ الذي ما تَعَوَّدَ أن ينحنيَ مهما قَسَت عليهِ الأَسلاك، جعلَ العنفوانَ زميلَهُ، ونَزيلَهُ، ورفيقَه، حتى باتَ أساساً لتَقييمِ عنفوانِ غيرِهِ، ليسَ في لبنانَ فقط. وقد بلغَ التّقاطعُ بينَه وبين العنفوانِ حتى دخلا في شيءٍ من الحُلول، فاعتبرَ بشير أنّ مصالحةَ واحدِنا مع الوطنِ تبدأُ، حُكماً، بالتزامِ العنفوانِ الذي هو، وحدَه، البُعدُ الجريءُ للكرامة. وكان، في تعاطيهِ مع القضيةِ، يركِّزُ على أنّ مصيرَها مرتبِطٌ بمَدى اندفاعِ العنفوانِ لدى اللبنانيّين، والذي يسمو بهم الى درجةِ الفداءِ، ولا تَراجُع. إنّ العلاقةَ الحميميّةَ مع العنفوان، هي تجسيدٌ غيرُ مردودٍ لقيمةِ الإنتماءِ المُندَفِع، ومبدأ الوفاءِ المُمَيَّزِ ولَو أدّى الى شَهادةٍ معَمَّدَةٍ بالدَم.
بشير الجميّل إختصرَ نضالَهُ في ثلاثةِ أَبعادٍ متكاملةٍ تُظَهِّرُ صورةَ الوطنِ : أوّلُها الإيمانُ بنهائيّةِ لبنانَ كياناً، وهويّةً، وسيادةً، فالكيانُ هو مشروعُ الوجود، أي جَذريّةُ الحياةِ في الزّمانِ والمكان، يترجمُها النّاسُ في وجدانِهم حالةً علائقيّةً تتحوّلُ الى تَكاملٍ عُضويٍّ ثابتٍ بينهم وبين الأرض. ثانيها نموذجُ لبنانَ الفريدُ بنظامِهِ الحُرّ، وبانفتاحِهِ على الشَّرقِ والغَربِ مَلقًى إستراتيجيّاً للحضاراتِ، والثّقافات، ومِحَطَّ أنظارِ العالَمِ مِثالاًللديمقراطيّةِ المتقدِّمةِ التي تقدّسُ الحريّاتِ، ليشعرَ الإنسانُ بقيمتِهِ السّامِيَة. ثالثُها الدّولةُ القادرةُ على بَسطِ سلطانِها على كاملِ مساحتِها، باسترجاعِها من " نَشّاليها " الذين عملوا على تَرَهُّلِها، وسَحقِها، وسَبْيِها، وهَزِّ صورةِ مؤسّساتِها، فلا خلاصَ، إذاً، إلّا بمشروعِ الدولةِ التي تتَّكِئُ على القانون، وقد رآها بشير جثّةً متكلِّسَةً، مُخَلخَلَةَ التَّركيب، فأعادَ تَدويرَها بتركيبةٍ لا سابِقَ لها، رَدَّت إليها الرّوح.
بشير الجميّل المُنحازُ للوطن، ووكيلُ النّاسِ المَقموعينَ في دعوى خلاصِهم من نكبةٍ أدمَتهم، وهيمنةٍ أرهقَتهم، والذين لم يَرضَ بشير أن يكونَ واحدُهم رقماً في جدولِ القتل، أَبى أن يُرَبِّتَ أحدٌ على كَتِفِهِ استِحساناً، كالذينَ يتمَوَّهونببزّاتٍ زَركشوها بنياشينَ سرقوها عن أبوابِ المقابِر. فنضالُهُ في سبيلِ بلدٍ راقٍ، حُرٍّ، سيّدٍ، كريم، ساقَه الى دَفعِ حياتِهِ ثمناً لنَهجِهِ، وإذا كان بالإمكانِ اعتبارُ شهداءِ الوطنِ بِما بَذَلوا، فلا يُقِلّونَ عن نُبلِ القدّيسين.
بشير الجميّل الذي ربطَته ثوابتُ أزليّةٌ بالوطن، كان، عن حَقّ، خميرةً لعجينةِ الأجيال، ورمزاً يَختزلُ العِزّةَ كلَّها، وخياراً إنقاذيّاً له مَذاقٌ خاص، وإعلاناً مُتَحَدِّياً عن بدءِ مرحلةِ القدرةِ على تسييرِ شؤونِنا بنفسِنا، ويَقظةً صادِمةً كجُرعةِ نُضجٍ لِقاصِر... بشير الذي استفاقَ بهِ، وحدَه، مَلمَحُ الإستقلال، نُوَجِّهُ إليه تحيّةَ الأبطال، انتصاراً للبنانَ، وللإنسانِ فيه،ونَعِدُهُ بأنّه مهما تمادى المشبوهونَ في سَفكِ حقِّنا، ودَمِنا، لن نُطَأطِئَ الجبين، وسنبقى مُخلِصينَ لحِلمِهِ، نردِّدُ له : " عَ دعساتَك نحنَ مْشينا ".