من أرض الأرز إلى عرش بطرس... لبنان يفرح بقدّيسه الجديد

لليوم الثالث على التوالي، تواصلت في أروقة الفاتيكان وعبر القارات أصداء إعلان قداسة المطران إغناطيوس شكرالله مالويان، أسقف ماردين للأرمن الكاثوليك، ذاك الراعي الذي جعل من صليبه جسرًا بين الأرض والسماء، ومن شهادته شعلةً لا تنطفئ في وجدان المؤمنين. من قلب ساحة القديس بطرس إلى أرمينيا، وصولًا إلى دير سيدة بزمار في لبنان، يتردّد اسم مالويان كترنيمةٍ من نور، ونداءٍ إلى الإيمان والصمود والرجاء.

عاشق أرض بزمار… وشهيد الإيمان

في التاريخ كما في الروح، تبقى بزمار مرآة القداسة. من ترابها خرج هذا الراهب الأرمني المتواضع الذي أحبّ أرض لبنان كما أحبّ وطنه الأم أرمينيا. هناك في دير سيدة بزمار البطريركي، عاش شكرالله ملكون مالويان سنوات التكوين، ينهل من ينابيع العلم والصلاة، قبل أن يعود إلى ماردين ليكون راعيًا على مثال قلب يسوع، يضمّد الجراح ويرعى شعبه وسط المحن.

لكن العاصفة العثمانية التي اجتاحت الشرق مطلع القرن العشرين وضعت إيمانه على المحكّ. رفض أن ينكر المسيح رغم التعذيب والإغراء، فاختار طريق الجلجلة بثبات الشهداء، ليُقتل رميًا بالرصاص في 11 حزيران 1915، يوم عيد قلب يسوع الأقدس، مردّدًا: "اللهم ارحمني، بين يديك أستودع روحي". وبذلك صار صوته صدى لدماء الشهداء الأرمن الذين رووا أرض الشرق بالإيمان والدموع والرجاء.

قداسة تتخطّى الحدود

لم يكن الحدث الفاتيكاني الأخير مجرّد احتفالٍ بروتوكوليّ لتقديس سبعة طوباويين، بل كان لحظةً كونيةً تتحد فيها الكنيسة الجامعة بكلّ لغاتها وثقافاتها حول قداسةٍ تنبع من الألم وتثمر سلامًا. وقد حرص قداسة البابا لاوون الرابع عشر على لقاء الوفود المشاركة في قاعة بولس السادس في الفاتيكان، مؤكدًا في كلمته أن القديسين الجدد هم "علاماتٌ مضيئة للرجاء في زمنٍ يحتاج إلى نور". وقال البابا متوجّهًا إلى الحضور اللبناني والأرمني: "نحن نتشارك فرح الشعب الأرمني العزيز إذ نتأمّل قداسة الأسقف الشهيد إغناطيوس مالويان، الذي لم يتخلَّ عن رعيّته في أزمنة الشدائد، بل اختار أن يريق دمه في سبيل الله. فلتُجدّد شفاعته حماسة المؤمنين، ولتُثمر مصالحةً وسلامًا للجميع".

وفد لبناني في قلب الحدث

الوفد اللبناني الرسمي، الذي ضمّ عددًا من النواب والوزراء السابقين، ترأسه كاثوليكوس بيت كيليكيا للأرمن الكاثوليك غبطة البطريرك روفائيل بيدروس الحادي والعشرون ميناسيان، في مشاركةٍ لافتةٍ تؤكّد عمق الحضور اللبناني في قلب الكنيسة الجامعة، وارتباط لبنان الروحي الدائم بروما وبالكرسي الرسولي.

أصوات من القلب

في أروقة اللقاء، عبّرت إحدى المؤمنات اللبنانيات عن مشاعرها قائلةً: "كان لقاءً مليئًا بالنعمة، وكأننا نعيش مجددًا لحظة القيامة. نحن في لبنان بلد القديسين، لكن كل مرة نشعر بنعمة جديدة، كأن الله يكلّمنا من جديد ويقول لنا: "الوجع ما بيروح ضيعان، بيصير قداسة"".

وقال أحد الحجاج الأرمن: "اليوم نطلب شفاعة القديس مالويان ليبارك لبنان وأرمينيا، ويزرع فينا السلام. شعور لا يوصف أن نرى أول قديس أرمني كاثوليكي يُعلن في الفاتيكان على يد البابا، وأن نشهد وحدة الإيمان بين الشرق والغرب في لحظة سماوية واحدة".

ميناسيان: قداسة مالويان دعوةٌ إلى إيمانٍ لا يعرف الخوف

ومساء أمس، ترأس غبطة البطريرك ميناسيان قدّاس الشكر على إعلان قداسة المطران مالويان عند مذبح عرش القديس بطرس في بازيليك الفاتيكان، وسط حضور حاشد من اللبنانيين والأرمن الذين قصدوا روما خصيصًا لهذه المناسبة. وفي عظةٍ روحيةٍ جامعة، قال غبطته: "لسنا هنا لمجرّد تذكّر رجلٍ من الماضي، بل لنتقدّم بالشكر لله الذي كتب صفحةً خالدة من الإنجيل من خلال شهادةٍ حيّة لأحد خدامه". وتابع: "هذه ليست احتفاليةً عابرة، بل جواب الكنيسة على صرخة نفسٍ أحبّت المسيح حتى الاستشهاد… الصليب ليس هزيمةً بل هو انتصار".

واستشهد بقول المسيح: "ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من هذا، أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه"، مؤكدًا أنّ قداسة مالويان "هي دعوةٌ إلى إيمانٍ لا يعرف الخوف، إيمانٍ يتكلّم، ويلتهب، ويصمد، ويحبّ حتى النهاية".

وأشار إلى كلمة الشهيد: "نحن نموت، ولكننا نموت من أجل المسيح"، واضعًا إيّاها كبرنامج حياة: الشهادة ليست نهاية مأسوية، بل هي طريقٌ إلى القيامة "حيث لا موت ولا وجع بعد الآن".

وختم داعيًا: "القداسة ليست امتيازًا لقلة، بل هي دعوة للجميع. فلنسِر على خُطى المسيح بقلبٍ ثابت وإيمانٍ نقي ومحبّةٍ متقدة".

وكان المشهد مؤثرًا حين ارتفعت التراتيل الأرمنية في أرجاء الفاتيكان، كأنها صلوات تصعد من جبل الأرز ومن ماردين ومن أرض الشهداء إلى قلب السماء.

لبنان الحاضر دائمًا

من ماردين التي شهدت الدم، إلى بزمار التي ربت الإيمان، إلى الفاتيكان الذي توّج الشهادة بالمجد، تتوحّد اليوم الأرض والسماء حول رسالة واحدة: أن القداسة ليست بعيدة المنال، وأن لبنان، أرض الرسل والقديسين، ما زال ينجب شهودًا يروون العالم بالإيمان.

 اليوم الثالث من الاحتفالات لم يكن مجرّد تذكّرٍ لقدّيسٍ نال إكليل المجد، بل هو تجديدٌ لعهد الإيمان الذي لا يُكسر، ورسالةُ رجاءٍ من قلب الكنيسة إلى كلّ قلبٍ متعب: أن الألم، حين يُعاش في حبّ المسيح، يتحوّل إلى نورٍ لا ينطفئ.

في زمنٍ يعصف به القلق والحروب، يسطع نجم القديس إغناطيوس مالويان ليذكّرنا أن الصليب ليس نهاية الطريق بل بدايتها، وأن من أحبّ حتى الدم صار حيًّا في المجد.

سلامٌ لذكراه، وبركةٌ على لبنان الذي يفرح اليوم بقديسه، وعلى أرمينيا التي قدّم منها للعالم شهيدًا للإيمان، وعلى الفاتيكان الذي احتضن نوره في قلب الكنيسة الجامعة.