من القلب إلى الكلى والعينين... السكّري يفتك بصمت

قد يبدو داء السكري مرضًا بسيطًا يمكن التعايش معه في حال تمت السيطرة عليه. ولكن في بلد يفوق سعر الدواء فيه أحيانًا راتب المريض وكشفية الطبيب ويعتبر عبئًا لا يمكن تحمله، فلا بد من تسليط الضوء على مخاطر هذا المرض وانعكاساتها الكبيرة على المرضى وعلى النظام الصحي ككل. فالاستهانة بالسكري وتجاهل علاجه يحولانه إلى أحد أخطر أمراض العصر. من هنا تبرز أهمية التعرّف المبكر إلى مرض السكري وفهم طبيعته كخطوة أساسيّة للسيطرة عليه بأقل كلفة ممكنة.

يقدر عدد الأشخاص المصابين بداء السكري في لبنان بحوإلى 439,700 ويتوقع أن يرتفع العدد إلى نصف مليون بحلول العام 2050، أما عالميًا فيؤثر السكري وفق آخر الاحصاءات على حوالى 589 مليون شخص في مختلف البلدان مع تأثير أكبر في بعض البلدان. وبمناسبة اليوم العالمي للسكري الواقع في الرابع عشر من تشرين الثاني، لا بد من إعادة تسليط الضوء على تداعيات هذا المرض ومخاطر إهماله أو اتباع العلاجات غير الصحيحة والتأكيد على الأساليب الشمولية في العلاج التي باتت تعتمد اليوم وأهمية الأدوية الحديثة التي يحكى عنها وتثير الكثير من الجدل.

على هامش ندوة أقامتها الجمعية اللبنانية للغدد الصم والسكري والدهنيات (LSEDL) وبدعم من شركة "نوفو نورديسك"، رسمت رئيسة الجمعية الدكتورة ميراي العم مسارًا واضحًا لتطور السكري عند المريض وتأثيراته السلبية الكثيرة على الصحة.

أمراض مرافقة

بداية، تشرح د. العم أن السكري يحدث حين يعجز البنكرياس عن إنتاج كميّة كافية من الإنسولين، أو عندما يعجز الجسم عن استخدام الإنسولين الذي يُنتجه بفعالية. وتقول إنه من المعروف أن السكري يصيب الشرايين الصغيرة كما الكبيرة التي تغذي كافة أعضاء الجسم، ويسبب تلفًا تدريجيًا في هذه الأوعية الدموية. ويظهر انعكاس ذلك في ما بعد على كل الأعضاء على شكل مضاعفات صحية متعددة.

كذلك، يعتبر السكري السبب الأول لفقدان البصر نتيجة اعتلال الشبكية، ومن مضاعفاته، قصور الكلى وصولًا إلى غسيل الكلى. ووفق ما تشرح د. العم فإن 40 % من مرضى غسيل الكلى المتواجدين في المستشفيات مصابون بداء السكري. ويعتبر هذا الداء، إلى جانب الحوادث، السبب الأول لبتر الأطراف لأنه يتسبب في تيبيس الشرايين التي تغذيها. وتبقى أبرز مضاعفات السكري الذبحات الصدرية، حيث تعتبر أمراض القلب والشرايين السبب الأول للوفاة عند المصابين بالسكري من النوع الثاني .كما إنهم يعانون من خطر الإصابة بالأمراض القلبية الوعائية بنسبة تتراوح بين مرتين إلى أربع مرات مقارنة بالبالغين غير المصابين بمرض السكري... ولا تقتصر مضاعفات السكري على القلب بمشكلة الشرايين، بل هو يصيب أيضًا عضلة القلب ويؤذيها بشكل مباشر إلى جانب عدم تغذيتها بشكل كاف من الشرايين المصابة . وهنا، يجب على الطبيب البحث عن وجود قصور في عضلة القلب عند من يعانون من السكري حتى وإن لم يشعروا بأية أعراض.

وتطول لائحة مضاعفات السكري لتشمل أيضًا الجلطات الدماغية والضعف الجنسي عند الرجال وهو أمر شائع ومعروف. كما يترافق السكري في العادة مع البدانة وتراكم الشحم على الكبد. كما إنه يصيب الأعصاب ولا سيما في الأطراف بحيث يشعر المريض بحريق في القدمين وبعدم توازن في المشي و كأنه يسير على أرضية من القطن.

كل هذه المضاعفات تجعل من مرض السكري مرضًا خطيرًا قادرًا على تقصير حياة الإنسان.

إنذارات الخطر

هذه الصورة السوداوية يمكن أن تنقلب إذا ما تم باكرًا اكتشاف وجود مرض السكري ومعالجته في مراحله الأولى، أو حتى في المرحلة التي تعرف بما قبل السكري pre diabetes. لكن المؤسف في الأمر، أن السكري لا يعطي إشارات واضحة لوجوده . وحين تبدأ الإشارات بالظهور يكون 50 % من المصابين قد وصلوا إلى مرحلة متقدمة، وبدأوا يعانون من واحدة أو أكثر من مضاعفات السكري. ومن الإشارات الأكثر شيوعًا التي يجب التنبه لها: العطش الشديد، جفاف الفم، كثرة التبول، الجوع المتزايد، التعب، ضبابية الرؤية، بطء التئام الجروح، خدر أو وخز في اليدين أو القدمين، بالإضافة إلى الالتهابات المتكررة. وعلى الطبيب أيًا يكن اختصاصه، أن يشك بوجود السكري في حال وجود أي مؤشر من هذه المؤشرات،  لا سيما إذا كان الشخص يعاني من البدانة، أو من ارتفاع في ضغط الدم، أو لديه تاريخ عائلي مع مرض السكري.

من هنا أهمية إجراء الفحوصات الدورية، للكشف عن مستوى السكر في الدم وعن معدل مخزون السكري في الجسم، لأن أي ارتفاع ولو كان طفيفًا يمكن أن يكون مؤشرًا إلى وجود استعداد للتحول إلى داء السكري. وفي هذه المرحلة المبكرة، يمكن إرجاعه إلى الوراء سواء بالأدوية التي باتت معروفة متل الميتفورمين،  أو اعتماد نمط حياة مختلف صحي على صعيد الطعام وممارسة الرياضة.

نظرة شمولية للعلاج

لكن حين يصل المريض إلى مرحلة السكري الفعلي، يصبح بحاجة إلى علاجات وأدوية أكثر فعالية تضاف إلى التغيير في أسلوب الحياة. وحاليًا تقول د. ميراي العم: "تطورت جدًا علاجات السكري من العقاقير إلى حقن الأنسولين التي شهدت تطورًا لافتًا". وتؤكد رئيسة الجمعية أنه في ما مضى، كان يجب على أدوية السكري أن تبرهن عبر التجارب أنها آمنة للقلب والشريين. أما اليوم، فالأدوية الجديدة ليست فقط آمنة بل هي مصممة لتساعد عضلة القلب والشرايين وكذلك قصور الكلى. أما التطور الأهم على صعيد العلاجات، فهو النظرة الشمولية التي باتت تعتمد لمقاربة مشكلة السكري. فالمرض اليوم، لم يعد مجرد أرقام جافة. ولم يعد يكفي، كما تؤكد د. العم، النظر إلى أرقام المخزون أو فحوصات مستوى السكر في الدم اليومية،  لأن هذه الأرقام تختلف أهميتها بين مريض وآخر تبعًا لحالته الصحية العامة، وما يعانيه من أمراض أخرى. فمن يعاني مثلًا من ارتفاع في ضغط الدم، أو من وجود مواد دهنية عالية في الدم أو شحم على الكبد، لا يمكنه  الاكتفاء بالهامش المقبول المتعارف عليه للسكري، إذ بوجود هذه المشاكل الصحية، يصبح عرضة للمخاطر بشكل أكبر. وحينها، يجب خفض مخزون السكر إلى درجة أقل من المعتاد. مع التأكيد على نمط الحياة الصحي والامتناع عن التدخين وضبط الوزن والبدانة وتناول الطعام الصحي.

سابقاً، كانت الدراسات تشير إلى أن خفض مخزون السكري درجة واحدة يمكن أن يكون له انعكاس إيجابي على مرض السكري وعلى المريض. أما اليوم، فالإدارة الحديثة تتخطّى مسألة قياس فرط السكّر لتشمل الوقاية من مضاعفاته مثل أمراض القلب، وأمراض الكلى، ومشكلات العين المرتبطة بالسكّري، والاعتلال العصبي، كما ضبط مستوى الدهون في الدم وتعديل ضغط الدم. ولم تعد بروتوكولات العلاج تصلح لكل المرضى سواسية، بل يجب معالجة كل مريض بشكل فردي ووضع هدف مصمم له خصيصًا. فالمريض ذاته ونمط الحياة التي يتبعها هو ما يحدد العلاج.

في لبنان بشكل خاص، تصبح هذه المشكلة أكثر إلحاحًا. إذ قد يكون الدواء المقترح خارج قدرة المريض على شرائه. لذا، يمكن للطبيب الخروج من النمطية المعتمدة، والتحول إلى خيار آخر يساعد في ضبط مستوى السكر في الدم. وهنا، لا بد من التأكيد على ضرورة مراقبة الوضع الصحي لمريض السكري باستمرار، رغم الكلفة المادية التي ترافق هذه المتابعة، لأنها في كل الحالات تبقى أقل من كلفة علاج الآثار السيئة التي قد تنجم عن إهمال السكري، وتركه دون معالجة مدروسة ومراقبة حثيثة. وينصح الأطباء مرضى السكري، بمتابعة وضعهم بشكل دوري كل ثلاثة إلى ستة أشهر، وعدم ترك فاصل كبير بين الزيارة والثانية، لأن الوقت هو عدو السكري الأول. وغالبًا ما يلجأ المرضى أو حتى الأطباء، إلى اعتماد الدواء نفسه لفترة طويلة، دون أية مراقبة ما يعرض المرضى لمضاعفات خطيرة. وثمة عامل مهم يلعب دورًا أساسيًا في العلاج، هو فهم السكري وطريقة عمل الدواء، وذلك بغية اعتماد أسلوب حياة موافق. فتناول دواء ما دون تناول الطعام مثلاً قد يؤدي إلى هبوط في مستوى السكر في الدم، وهو أمر خطير قد يقود إلى فقدان الوعي، والتسبب بحوادث قاتلة عند السائقين مثلًا. من هنا أهمية الحوار الجدي بين المريض والطبيب لشرح هذه الأمور.

و تشرح د. العم أن السكري مرض متطور ولا يبقى على حاله، لأن الخلايا التي تفرز مادة الأنسولين في البنكرياس تموت مع الوقت. وحين يتم تشخيص المريض بالسكري، تكون نصف هذه الخلايا قد ماتت. ومع تقدم مرض السكري، يكمل الجزء المتبقي من هذه الخلايا طريقه نحو الموت. وحتى اليوم، لا وسيلة تذكر لإيقاف موت هذه الخلايا. لكن بالمتابعة الحثيثة لمرض السكري، يمكن إبطاء موت هذه الخلايا. وينعكس هذا الأمر بشكل واضح على المرضى الذين يقولون مثلًا، إن جسمنا قد اعتاد على هذا النوع من الدواء، ولم يعد نافعًا لضبط مستوى السكر. لكن في الحقيقة، هذا التراجع في الفعالية ناجم عن تطور المرض وموت الخلايا، وليس عن اعتياد الجسم على الدواء.

 

الأوزمبيك علاج أم تراند؟

شهدت السنوات الأخيرة تحولًا لافتًا في مقاربة علاج السكري من النوع الثاني، مع بروز أدوية حديثة تُعرف بـ "حقن التنحيف" مثل الأوزمبيك (Ozempic) والمنجارو (Mounjaro). ورغم شهرتها كوسائل لإنقاص الوزن، فإنها في الأصل طُورت لعلاج السكري، إذ تساعد على ضبط معدل السكر في الدم، وتحسين استجابة الجسم للإنسولين. كما تُسهم في خفض الوزن الزائد، وهو عامل أساسي في السيطرة على المرض والحدّ من مضاعفاته القلبية والكلوية. لذلك، باتت هذه الحقن تُعتمد اليوم كخيار علاجي فعّال، خصوصًا لدى مرضى السكري الذين يعانون من البدانة، تعمل على تنظيم مستويات السكر في الدم عن طريق تحفيز إفراز الأنسولين، وإبطاء عملية الهضم، وتقليل الشهية، كما يمكن أن تساعد في فقدان الوزن، وفي حماية شرايين الكلى وشرايين الساقين... ولكن مخاطر هذه الحقن تكمن وفق د. ميراي العم في اعتمادها بشكل عشوائي دون تقييم طبي ودون حاجة فعلية إليها. وحده الطبيب قادر على تحديد نوع المرضى الذين يحتاجون إلى هذه الحقن. لكن اللافت في الأمر أنها في لبنان ووفق ما اختبرناه تباع دون أية وصفة طبية ويمكن لأي كان شراؤها واستخدامها وبالتالي تعريض نفسه لمضاعفات خطيرة.

 

السكري يتسلّل إلى الأطفال

الأطفال المصابون بداء السكري، غالبًا ما يظهر عندهم النمط الأول الذي ينجم عن تدمير جهاز المناعة لخلايا البنكرياس التي تُنتج الإنسولين، أو توقيفها عن العمل، فيصبح الطفل بحاجة إلى حقن الإنسولين مدى الحياة تقريبًا. لكن للأسف، الأمر اليوم لم يعد محصورًا بالنمط الأول فقط، إذ قد يُصاب بعض الأطفال بداء السكّري من النمط الثاني (Type 2) أيضًا الذي كان يُعتبر عادة "مرض البالغين"، لكنه بات اليوم يظهر لدى بعض الأطفال نتيجة البدانة، والكسل البدني واعتماد نمط غذائي غير صحي إضافة إلى التاريخ العائلي.

في لبنان لا توجد بيانات حديثة وموثوقة حول عدد الأطفال الذين يعانون من السكري من النمط الأول. ولكن لم يعد من الممكن استثناء ظهور السكري من النوع الثاني لدى الأطفال. ومن هنا يصبح الكشف المبكر والمتابعة مهمان جدًا لتجنب المضاعفات.