من حصاده

الساعة كانت قد تجاوزت منتصف الليل. ليل الأسواق هادئ. طلقة نارية بين برهةٍ وأخرى. لا هاون. لا مدفعية ثقيلة. وحدنا في صحيفة "العمل". هو ينتظر أن تكرّ كلمات "حصاد الأيام" ليستكين، وأنا أُراقِب الهاتف وآلات وكالات الأنباء، علّها تأتي بتوضيحٍ أو توسُّع في خبر، أو تقفز إلى حدثٍ من النوع الذي يُوجِب تبديلاً في نصٍّ أو في ترتيب الصفحة الأولى.

في أقل من نصفِ ساعةٍ عاد حاملاً حصاده، كما الفائز بجائزة يومه. ألقاه أمامي، وكانت تلك سعادة لي، أن أقرأ له قبل كلّ قرائه، وأُصوِّب ما أمكنني، عبر ذلك، مُقارَبتي للأوضاع في البلد الداخل أكثر فأكثر أطوار عذابه المُتلاحِقة، لا سيما أنني كنت رئيس قسم السياسة المحلية.

"حصاد الأيام" كان إذًا بوصلة لي، إلى موقف الشيخ بيار الجميل اليومي. هذا أُراجِعه قبل بدء العمل التحريري، وذاك أُقلِّبه في ذهني قبل صياغة خبر الصفحة الأولى أو بعدها. وفي الحالَين أضبط ساعة هذا الخبر حيث يُوجِب الضبط نفسه. فكثيرًا ما شدّتني كتابات جوزف أبو خليل إلى الأرض، والعقل، والمنطق، وإلى واقعٍ تُحلّيه إشراقات قضية لبنان ومدى عشقه لهما. لذا احتفظت بين أوراقي ببعض نصوص الحصاد بخط يده، لمُراجَعةٍ ويومٍ قد يأتي لكلامٍ عليها وعليه، كثير.

فوجئت يوم عرض عليَّ أصدقاء مُقابَلة جوزف أبو خليل في "العمل"، لأنه يبحث عن صحافيين لإطلاق الصحيفة بزخمٍ جديد. فوجئت لأنني لم أكن كتائبيًا، ولم يكن في البال أن أنتمي إلى حزبٍ ما، والحرب على لبنان موضعُ رفضٍ جذري عندي، وكنت لا أزال في السنة الثانية في كلية الإعلام والتوثيق – الفرع الثاني، قسم الصحافة ووكالات الأنباء.

لكن الأصدقاء أجابوا بأن جوزف أبو خليل لا يشترط الانتماء إلى حزبه. يُريد فقط شبابًا بهم حُبّ للصحافة والتزام بلبنان الحرية وكرامة الإنسان.

وقابلته. وبعد أيامٍ معدودة التحقت بالصحيفة. وكان يودّني أن أبدأ بعد المُقابَلة. لكنني استمهلته لأستجمع نفسي لتجربةٍ لم أكن أتوقّعها.

في 18 شباط 1978 صرت من فريق عمل الصحيفة، وكان بعدد أصابع اليدَين. وأخذت أشعر يومًا بعد يومٍ بأنني أدخل ساحةَ نضالٍ مُتطلِّبة جدًا، بمقدار تطلُّب أرض لبنان وناسه وتاريخه وقِيَمه، وجوده وحضوره.

وكان وراء هذا الشعور جوزف أبو خليل، أو أبو خليل لدى أُسرة الصحيفة، المُحِبّ الذي تختصر طيبته خصاله الكثيرة كلّها، لكنها تحضّ على كشفِ محطاتٍ من مضامينها، بعدما صار الرجل مُلكًا لوطنه، وأجياله الشابة والآتية.

لم يطُلْ بنا المُقام في بيت الكتائب المركزي – الصيفي. فانتقلنا إلى قصر الليدي كوكرن في محلة الجميزة، الذي وضعته في تصرُّف الحزب، وكان يضمّ "دار العمل". والسبب عنف القصف وخطورة الوصول إلى المكاتب الأساسية.

هناك، كتبت يومًا ورقة من أربعة أسطر، اقترحت فيها أن تستقبل "العمل" في عداد صحافييها، نخبة طلاب الصحافة في الجامعة اللبنانية في فرعها الثاني، إذا كانت تُريد فعلاً تحقيقَ سبقٍ مهني رائد.

وضعت الورقة على مكتب جوزف أبو خليل وتركتها له يقرأها على مهل. إلا أن ردة الفعل جاءت مُذهِلة وسريعة. فقد دخل مكتبي كالبرق، مُرحِّبًا بالفكرة، وطالبًا مني القيام بالاتصالات اللازمة.

وهكذا، غدت أُسرة تحرير "العمل" مُكوَّنة من مجموعةِ شبابٍ وصبايا مُوزَّعين على أقسامها المختلفة، يجمعهم الحماس نفسه والهدف المهني والوطني إياه.

وهو وسام لرئيس التحرير وللحزب. فلم يحدُثْ مرة، في لبنان، وربما خارج لبنان، أن كان مُحرِّرو صحيفةٍ حزبية من غير الحزبيين، المستقلين غير الخاضعين لرقابةٍ ما، فيما الحزبيون أقلية فيها، لا تتجاوز أصابع اليد. كما لم يحدُثْ أن تحوّلت مكاتبُ صحيفةٍ وحتى اجتماعاتها، كما كانت حال "العمل"، ملاذًا في دورات العنف، وهدايةً في كلّ آن، لصحافيين من غير أُسرتها، وصدرًا رحبًا يستقبل سياسيين ويُحاوِرهم من كلّ صوبٍ واتجاه.

الحق أن الرهان على هذا النوع الفريد من فريق العمل أثبت نجاحًا باهرًا. فقد توسّعت أقسام الصحيفة. وضمّ المحلي منها شؤون السياسة والاجتماع والاقتصاد والتربية والرياضة. والخارجي شؤون الإقليم والعالم على نطاقٍ رحب. وأُضيف قسم التحقيقات. وغزرت التحليلات والمواقف في المقالات. وازدانت الصحيفة بالكاريكاتور. ومن أربعِ صفحاتٍ إلى ثمان، فإلى أربعٍ وعشرين. وتمكّنت "العمل"، لأولِ مرةٍ في عمرها، من تأمين استقلالها المالي عن الحزب من خلال المبيع والإعلانات والملاحق المُتنوِّعة. وبعدما تنقّلت بين الصيفي والجميزة والهوليداي بيتش والكرنتينا، استقرّت في مبنى خاص اشتراه عَرَق العاملين فيها في تحويطة فرن الشباك، وبقيت هناك إلى أن تغلّب النزاع الداخلي في الحزب عليها، فغادرها جوزف أبو خليل ونحن كلّنا تباعًا.

من ثمار هذا الرهان الكبير، سجّلت "العمل" بعضَ إنجازاتٍ كبرى. فقد نقل جوزف أبو خليل في إحدى أُمسيات اجتماعات التحرير شكر الرئيس المُؤسِّس وتهانيه إلى أُسرة الصحيفة. شكر وتهنئة عبّر عنهما أمام المكتب السياسي والمجلس المركزي. وفيهما تحيّة من الرئيس الياس سركيس إلى الصحيفة اللبنانية الوحيدة التي وقفت إلى جانب الرئاسة الأولى في أصعب الأوقات التي دشّنت الحرب على لبنان. وقوله للشيخ بيار الجميل إن عواصم الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي طلبت من سفاراتها في بيروت تزويدها يوميًا بالحقيبة الدبلوماسية بأعدادٍ من "العمل"، دلالة على مدى تأثيرها في صحة متابعة الأوضاع اللبنانية.

وترافق ذلك مع رفع دمشق مشترياتها من أعداد الصحيفة، من 200 إلى 400 نسخة.

إستطاعت "العمل" تدريجيًا احتلال المركز الأول في صحف لبنان، بغنى محتوياتها، وأسبقية أخبارها، وبوهج الحرية الذي كانت تكتسي به مواردها وما كان يبدو سوى خطفٍ بارق في بعض زميلاتها.

ولا بأس هنا بإفشاء أحد أسرار المهنة بعد مرورِ عقودٍ عليه. فخلال الحرب على لبنان، كانت وكالات الأنباء العالمية قليلة العدد في بيروت. والأبرز المُعتاد بينها قبل هذه الحرب نقل مركزه الرئيسي من العاصمة اللبنانية، واحتفظ بمكتبٍ له فيها يتزوّد بالأخبار من المكتب الإقليمي. وكان الاشتراك في الوكالات الكبرى عالي الكلفة. لذا اكتفت "العمل" بوكالتَين :"الصحافة الفرنسية" بترجمتها المصرية التي تُقارِب الأحاجي والألغاز، و"رويتر" البريطانية التي كانت تُوزِّع موجزات من مكتبها البيروتي، جامدة وباردة ولا تفي بالمطلوب.

شاءت التقادير، ولا أدري كيف، أن حطّت في غرفةٍ جانبية من الصحيفة آلة خاصة بالتقاط موجات الراديو، غدت محجّة لمسؤول الصفحة الرياضية، الراحل العزيز بيار القاضي. فتمكّن بعد تجارب وتجارب، من تحديد موجات الوكالات العالمية للأنباء. وهكذا تكاثرت مواردنا الإخبارية. وعمدنا إلى ترجمتها. والأهم أننا مددنا فترة التحرير إلى الفجر مرات عدة، لتصدر "العمل" كلَّ يومٍ تقريبًا، وفيها من الأخبار زوادة حافلة لا تعرفها أيُّ صحيفة أخرى، لا سيما متى تطلّب الأمر تغطيةَ حدثٍ مفاجئ أو مباريات عالمية في كرة القدم.

في تلك الحقبة الملأى بالتحديات والثرية بالحوافز المهنية، زار الصحيفة عميد "النهار" غسان تويني. حيّا العاملين في الأقسام كلّها. وتوقّف في القسم المحلّي ليُبدي إعجابه الشديد بوطنية "العمل" واحترافها، ويؤكِّد أنها مدرسة أخلاقية وقِيَمية، ومدرسة أيضًا في اللغة الفصحى الرقراقة الصحيحة الجميلة. ولقد كانت قفزة "العمل" الجبارة وراء زيارة عميد "النهار". وما درى بأمر آلة الموجات الكريمة. وأغلب الظن أن جوزف  أبو خليل تغاضى عنها آنذاك، لكنه لم يأْتِ يومًا على ذكرها أمامنا.

كان مكتب جوزف أبو خليل أكثر من مكتب رئيس تحرير. كان ملاذًا وكرسي اعتراف، لحزبيين ولأعضاء من أُسرة التحرير، وللبنانيين تعثّرت أمورهم هنا وهناك، ووجدوا فيه أملاً ورجاء. وغالبًا ما لم يخِبْ لهم أمل ورجاء.

نادرًا ما صادفت جوزف أبو خليل غاضبًا. وما كان غضبه سوى غضبٍ خاطف، وبه نداءات إلى المُسامَحة، وكثير من العطف والحُبّ.

كنا نعرف في "العمل" أن "الإبن الروحي" لمؤسس الكتائب، الشيخ بيار الجميل، كان مطبوعًا بأخلاق الأب الروحي، إذ كان أقرب المُقرَّبين إليه منذ فتوّته. لذا كنا نقرأ في مشاعره ومواقفه، مشاعر الشيخ بيار ومواقفه. وعبر الإبن أحببنا الأب ذاك الحُبّ البعيد كلّ البُعد عن الإصطناع والمُمالأة، والشديد القرب من التعبير الحقيقي عما تتحرّك به العقول والقلوب.

وكان جوزف أبو خليل يُخفي بالصمت أحزانه، اضطرابات الإنسان فيه، لئلا تكون مصدر عدوى لا يستسيغها . وكان ينشر سعادته وفرحه عدوى حوله وحواليه، إلى أن يرى الوجوه تُشرِق وإياه وتهنأ.

كان هذا وسواه كثير، ما بنى أجواء"العمل". فجاء كلامها صادقًا، حازمًا، حاسمًا، وفي الآن نفسه لطيفًا فيّاضًا بحُبّ لبنان وأهل لبنان.

فأُسرة "العمل" تعلّمت من جوزف أبو خليل ومعه، المعنى السامي الراقي للحرية، وللمسؤولية. ذاك الذي لا يجرح أحدًا، ويُنبِّه للاشتراك في مواجهة الأخطار، وفي المسؤولية، وفي المُعالَجات حفاظًا على الإنسان وعلى لبنان.

إستحق جوزف أبو خليل شكر كلّ مَنْ عرفه  وعمل معه، لا سيما أهل "العمل"، حتى بعد طي إطلالاتها لأسباب سوء. فما جناه هؤلاء كان شهادة، وإنْ مُتفاوِتة، في الجدوى الصحيحة من الحياة، في بلدٍ فريدٍ كلبنان، وفي أهمية إعلاء شأن هذه الحياة باحترامها في أصحابها، إلى أيِّ جنسٍ أو عرقٍ أو دينٍ أو منطقةٍ أو حالٍ إجتماعية انتمَوا.

شكر يُجدِّد، لا ذكرى جوزف أبو خليل، بل حضوره الدائم في الفكر والقول والعمل، لدى الذين أحبّوه    ولا يزالون وسيبقَون يُسائلون أمثاله القِلّة، عن دروب الدنيا وكيف تصويب مساراتها، وكيف يكون كلُّ تصويبٍ ابتهالاً إلى صانعها، وتعظيمًا.

شكر يُسائل المعنيين عن طول صمت "العمل"، ومتى أوان انبعاثها علامةً فارقة في السياسة اللبنانية الحق وفي تاريخ النضال في لبنان. فالفراغ الذي خلّفته كبير، وعودتها ، "العمل" الحمراء، فوزٌ للحزب وللوطن. وطالما أثبتت ذلك في الليالي الحالكة، وأنها عصيّة على الخطف، والمُصادَرة، وإبنة غالية للصحافة الصحافة، في بلادنا.

وبي يقين أن عودة "العمل" إلى الصدور ظلّت تُرافِق جوزف أبو خليل حتى يومه الأخير في هذه الدنيا. لذا هي أُمنيته المُلِحّة التي حالت دون تحقيقها أسباب، في العقود الأخيرة. ولا موجب للتغاضي عنها اليوم، ضنًّا بالحرية وبكرامة الإنسان.