المصدر: اللواء
الكاتب: د. سمير حسن عاكوم
في ظلّ التغيّرات المتسارعة التي يشهدها العالم لم تعد الحروب والصراعات السياسية مجرّد أحداث معزولة، بل تحوّلت إلى أدوات لإعادة رسم الخريطة الاقتصادية العالمية. بين الحرب التي اندلعت في غزة في السابع من تشرين الأول 2023 بعد خطاب نتنياهو الشهير وإظهار خرائطه الاقتصاديّة في الأمم المتحدة، والتوتر المتجدد في إقليم كشمير وصولاً الى الحرب الحاليّة بين الهند وباكستان تتكشّف ملامح معركة كبرى جوهرها السيطرة على طرق التجارة والطاقة التي تعيد تشكيل النظام العالمي الجديد.
وسط هذا المشهد الدولي المتقلّب، يبدو أن لبنان وبالرغم من أزماته السياسية والاقتصادية العميقة، لا يزال يمتلك فرصة حقيقية للعب دور محوري. فموقعه الجغرافي على الساحل الشرقي للبحر المتوسط وقربه من الخليج وسوريا وتركيا يضعانه في صلب التنافس الدولي على الممرات التجارية الكبرى. ولكن، هل لبنان مستعدّ للاستفادة من هذه الفرصة؟ أم أنه سيبقى عالقاً في أزمات داخلية تستهلك ما تبقّى من قدراته وموقعه؟
لم يعد خافياً على أحد وجود خرائط مشاريع كبرى وسباق بين الدول الكبرى على من يقود التجارة العالمية، ثلاثة مشاريع إقليمية وعالمية تتنافس اليوم للسيطرة على مسارات الربط بين آسيا وأوروبا والشرق الأوسط:
بداية مع مشروع الصين التي أطلقته عام 2013 «الحزام والطريق» وهو خطة استراتيجية ضخمة تهدف إلى ربط الصين بالعالم من خلال ممرات بحرية وبرية تشمل أكثر من 150 دولة. استثمرت الصين في الشرق الأوسط مليارات الدولارات لتطوير الموانئ والبنى التحتية في الإمارات، السعودية، مصر وعُمان. يمكن للبنان يمكن أن يستفيد من هذه المبادرة عبر إعادة تأهيل مرفأي بيروت وطرابلس لدمجهما بخط الملاحة البحرية القادم من آسيا، إنشاء شبكة سكك حديد تربط المدن اللبنانية بالداخل السوري والعراقي وعبر تطوير مشاريع الطاقة والاتصالات والبنى التحتية الرقمية. لكن هذا الطموح يصطدم بعقبات حقيقية، أبرزها الضغوط الأميركية التي ترفض التوسّع الصيني في المنطقة، إضافة إلى ضعف الدولة اللبنانية وغياب رؤية اقتصادية واضحة.
ثانياً مشروع الهند والغرب أي «الممر الاقتصادي الهندي الشرق أوسطي الأوروبي». أعلنت الهند في قمة مجموعة العشرين عام 2023 بالتعاون مع الولايات المتحدة وأوروبا عن مشروع اقتصادي جديد يربط الهند بموانئ الخليج ومنها إلى مرفأ حيفا ثم إلى أوروبا. هذا المشروع يهدف إلى تقديم بديل للممرات التي تقودها الصين وإلى تعزيز نفوذ الهند في التجارة الدولية. لبنان، وبالرغم موقعه القريب من هذا الخط فإن دوره يتعارض مع هذه المعادلة لأسباب مختلفة على رأسها دور إسرائيل كشريك أساسي في هذا المشروع.
ثالثاً مشروع تركيا المسمّى «الممر الأوسط»، طرحت تركيا مشروعاً بديلاً يربط الصين بوسط آسيا وأوروبا عبر أراضيها. هذا الممر يتجاوز روسيا وإيران ويوفر بديلاً أسرع وأكثر استقراراً في ظل الحروب المستعرّة. من الناحيّة النظريّة يستطيع لبنان أن يلعب دوراً مكمّلاً لهذا المشروع، خاصة إذا ما أُعيد تفعيل الربط البري بينه وبين سوريا وتكاملت مرافئه مع شبكة التجارة الآسيوية.
ولكن ما يملكه لبنان من موقع استراتيجي يخسره تدريجياً بسبب الانهيار الاقتصادي والمالي، تآكل الثقة بمؤسسات الدولة، غياب أي رؤية اقتصادية أو سياسة خارجية فاعلة وعدم الاستقرار السياسي والأمني.
في المقابل، لا تزال هناك فرصة أمام لبنان لإعادة التموضع في الخارطة الجديدة إن هو تبنّى مساراً عقلانياً يقوم على الحياد الاقتصادي الإيجابي عبر تجنّب الدخول في المحاور المتصارعة والانفتاح المتوازن على جميع المشاريع الاقتصادية العالمية المتلائمة مع مقوماته بما يضمن مصالح لبنان دون التورّط في استقطابات سياسية حادّة. لا بد من تحقيق تكامل اقتصادي مع سوريا في ظل عودة الانفتاح العربي على دمشق، فالتعاون مع سوريا يسمح بإعادة تفعيل سكك الحديد وإنشاء ممرات برية مشتركة وربط المرافئ اللبنانية بعد إعادة تأهيلها بمرافئ طرطوس واللاذقية، إنشاء مناطق صناعية وتجارية حرّة قادرة على جذب الاستثمارات وتقديم خدمات لوجستية متقدمة. كما يتطلب إحياء مشاريع استراتيجية مشتركة مثل مشروع خط التابلاين الذي كان ينقل النفط من الخليج إلى الساحل اللبناني والذي يمكن إعادة النظر فيه أو تطوير بدائل حديثة له تخدم حاجة المنطقة إلى ممرات طاقة جديدة. تترافق هذه المشاريع مع تفعيل دور الجاليات اللبنانية النشطة في الخليج وأوروبا وأفريقيا لتكون جسراً للاستثمار، تحريك التجارة ودعم الاقتصاد الوطني.
في الوقت الذي تسعى فيه الدول الكبرى لرسم خطوط التجارة العالمية الجديدة هذه، يبقى السؤال هل يملك لبنان ما يكفي من الإرادة السياسيّة الحكيمة والإدارة ليكون جزءاً من هذه المعادلة؟ أم أنه سيبقى مجرد متفرّج متلقّي يُستبعد عن الخطط الكبرى ويُستعاض عنه بمرافئ وممرات بديلة؟
الفرصة لا تزال قائمة، لكن الوقت يمرّ بسرعة والمشاريع تتقدّم دون انتظار. وإذا لم يتحرك لبنان الرسمي والشعبي اليوم فقد يجد نفسه غداً محاطًا بغبار ممرات اقتصادية تمرّ من حوله لا عبره.