المصدر: نداء الوطن
الكاتب: لوسي بارسخيان
الثلاثاء 9 أيار 2023 07:35:28
مرّ نحو أسبوع على اجتماع لجنة الإعلام والإتصالات النيابية الذي خصّص للبحث في الـ»مضبطة الإتهامية» التي شكّلها تقرير ديوان المحاسبة حول الأموال التي هدرت في مبنيي «تاتش» في الباشورة وقصابيان في الشياح، حيث أعلن رئيس اللجنة إبراهيم الموسوي عن إحالة الملف بـ»جرائمه الموصوفة» إلى النيابة العامة التمييزية وملاحقته من قبل هيئة القضايا لإصدار الأحكام بحقّ المتورّطين في صفقاتهما، سواء أكانوا مقصّرين أم مسيئين للمال العام.
إذا صدقت هذه النيّات، يفترض أن يشهد اللبنانيون خلال أيام ملاحقات قضائية حول ملفّ الإتصالات هذا، خصوصاً أن ستر فضائحه بعد تقرير ديوان المحاسبة، أصبح مستحيلاً.
«نداء الوطن» بعد عرضها في تقرير سابق التقصير الذي تحدّث عنه تقرير ديوان المحاسبة في وضع إشارة على الصحيفة العينية للعقار الذي اشترته شركة MIC2 في الباشورة تداركاً لتضييع الحقوق بالبلوكين BوC من العقار 1526، تتابع في ما يلي قراءة تفاصيل ما ورد في التقرير، والذي يذهب إلى أبعد من تحديد الخسائر المالية الناتجة عن صفقتي استئجار ومن ثم شراء مبنى الباشورة، إلى كشف الإرتكابات التي رافقتها، وما لفّها من شبهات معزّزة بالمستندات.
بدأت القصة مع الوزير جمال الجرّاح الذي بعد تأكيده موقف سلفه لجهة فسخ عقد استئجار مبنى قصابيان، طلب من MIC2 إيجاد مبنى مناسب آخر للإنتقال إليه. مراسلات عديدة تمّ تبادلها خلال هذه الفترة، كان أبرزها تلك التي أرسلتها MIC2 لوزارة الإتّصالات لتبلّغها بأنها تلقّت أربعة عروض لاستئجار مبنى جديد بالتنسيق مع وزارة الإتّصالات، وأنها رفضت ثلاثة منها شكلاً كونها لا تستوفي شروط المساحة المطلوبة، ما يبقيها أمام خيار وحيد، هو العقار المملوك من شركة CITY DEVELOPMENT في الباشورة.
تأجير بلوكين قيد الإنشاء!
عرضت هذه الشركة تأجير البلوكين مع أنهما كانا «لا يزالان قيد الإنشاء» كما ورد في الكتاب. ولكن بدلاً من أن يطلب الجرّاح البحث عن عروض إضافية لضمان المنافسة واختيار الأفضل، أوصى ببدء المفاوضات لاستئجار المبنيين واستكمال الأعمال فيهما. فقدّمت الشركة المؤجّرة خلال شهر أيار عرضاً بتوقيع عقدين: الأول عقد تأجير للبلوكين على أساس CORE AND SHELL لقاء مبلغ 6.9 ملايين دولار سنوياً ويبدأ في بداية سنة 2019، على أن تكون مدة العقد 15 عاماً قابلة للفض بعد عشر سنوات، مبرّرة التأخير في تنفيذ العقد فوراً بالحاجة لإنجاز المبنى.
أما العقد الثاني فهو لاستكمال الأشغال في المأجور مع شركة SEG، وحدّدت قيمة هذا العقد بـ22 مليوناً و600 ألف دولار، يبيّن تقرير ديوان المحاسبة أنها دفعت نقداً لمالكي CITY DEVELOPMENT كونهم هم أنفسهم المساهمين في شركة SEG.
ولكن تقاضي CITY DEVELOPMENT مبلغاً فورياً عبر شركة SEG لإنجاز أعمال تقع على عاتقها، لم يكن نقطة التلاعب الوحيدة في هذين العقدين. بل كيّف عقد التأجير وفقاً للأسعار التي حدّدت في حال تأجيره على أساس CORE AND SHELL، وهذا عقد إيجار يفترض أن تكون كل الأعمال الخارجية المطلوبة بالبناء مستكملة، على أن تترك مسألة التقطيع للمستأجر وفقاً لاحتياجاته، الأمر الذي بدا مخالفاً للواقع على الأرض. إذ إن العقد الموقّع مع SEG حمل نفقات تجهيز أعمال أساسية لاستكمال البناء، منها الإمدادات الصحية والأبواب والشبابيك فضلاً عن أعمال الباطون، ما شكّل إشارة دامغة على كون المبنى غير منجز وأنه أصبح كذلك بالمال الذي دفعته وزارة الإتّصالات عبر شركة MIC2!
على رغم تحذير MIC2 من كون البدلات المحدّدة في كلا العقدين مرتفعة بالنسبة إلى أسعار السوق، وعلى رغم عدم تجاوب CITY DEVELOPMENT مع مطلب الوزير الجرّاح بتخفيض قيمة الأجرة السنوية إلى6.1 ملايين دولار، وتحديدها بـ6.4 ملايين دولار، وقّع عقد التأجير، والذي لم يتضمّن بداخله أي ذكر للعقد الموازي الذي وقّع مع SEG، مع أنّ التأخير في تسلّم البلوكين هو لتنفيذ موجبات عقد SEG.
بدأ الإنتقال إلى الباشورة في شهر آذار من سنة 2019 بالتزامن مع تسديد بدل السنة الأولى للإيجار. إلا أنّ الجدل حول الرقم الذي وضع للإستئجار لم يتوقّف. فالمبلغ المفصح عنه في العقد يصل إلى 64 مليون دولار خلال عشر سنوات، فيما الكلفة الحقيقية يجب أن تتضمّن إضافة مبلغ 22.6 مليون دولار دفعت نقداً لاستكمال التجهيزات، بالإضافة إلى نفقات أخرى حمّلت للجهة المستأجرة.
وكانت هذه الكلفة موضوع مساءلة خلال جلسة منح الثقة التي عقدها المجلس النيابي لحكومة الرئيس سعد الحريري في شباط 2019، والتي أوكلت مهمات وزارة الإتصالات للوزير محمد شقير.
تصحيح الخطأ بخطيئة!
فسارع شقير لدى تسلّمه مهماته لتصحيح «خطيئة» استئجار المبنى، عبر عرض شرائه. وبعد أربعة أشهر من انتقال «تاتش» إلى البلوكين، كلّف MIC2 بأن تبدأ بمفاوضات شرائهما. فتبلّغ بموافقة CITY DEVELOPMENT وشروطها في 26 تموز 2019. وخلال أربعة أيام وُقّعت إتفاقيتان. الأولى لفسخ عقد الإيجار السابق والثانية لشراء المبنى.
إلا أن اللافت وفقاً لديوان المحاسبة هو أن مبلغ الشراء الذي حدّد في عقد الشراء مخالف لما ذكر في المراسلات السابقة بين الطرفين. فوفقاً للعقد بيع البلوكان بمبلغ 68.6 مليون دولار، بينما المراسلات حدّدت السعر بـ75 مليون دولار، يحسم منه مبلغ 6.4 ملايين دولار المسدّدة كأجرة السنة الأولى من تنفيذ عقد التأجير السابق.
بينما أظهر تقرير ديوان المحاسبة في عملية حسابية أنّ المبلغ المحدّد في عقد البيع أي 68.6 مليوناً، تضاف إليه أجرة السنة المسدّدة في عقد الإستئجار السابق أي 6.4 ملايين دولار والتي برّئت ذمة الشركة منها في اتفاقية فسخ عقد الإيجار «بشكل غير مبرر»، إلى كلفة استكمال التجهيزات والتي بلغت 22 مليوناً و600 ألف دولار ومبلغ 233 ألفاً و370 دولاراً سدّد لـ City Development كبدل تكاليف تكبّدتها بمناسبة صفقة الإيجار. تضاف إليها فوائد تصل قيمتها لـ5.1 ملايين دولار ستترتّب عن تقسيط مبلغ 45 مليون دولار من ثمن البلوكين على ثلاث سنوات، وذلك بعد إيفاء القسط الأول من السعر المحدّد في العقد. فيصل مجموع الكلفة الحقيقية لشراء المبنى إلى نحو 102 مليون و93 ألف دولار. وهو مبلغ يتجاوز المبلغ المصرّح عنه بما يقارب الـ34 مليوناً و33 ألف دولار.
ومع ذلك وقّع العقد، وجرى تحريره بنسخة واحدة أودعت في مكتب المحامي سيرج عيروط. وهو نفسه الذي كانت أودعت لديه نسخة عقد الإيجار. معلومة كانت لتمرّ، ولو أثارت إستغراباً لجهة عدم استحواذ الجهة الشارية على نسخة منه، لولا علاقة ربطت عيروط أيضاً بإحدى شركتين تأسّستا بالتزامن مع صفقة التأجير الأولى، وعزّزتا الشبهات حول «تقاضي أشخاص منافع غير مشروعة لقاء مساهمة محتملة منهم في إبرام صفقة الإيجار، وحول إجراء هندسات قانونية من أجل إخفاء المنافع غير المشروعة بما قد يشكّل تبييضاً للأموال» كما ورد في تقرير ديوان المحاسبة.
شركتان ولدتا في توقيت مشبوه
يتطرّق تقرير الديوان إلى هذه الشبهات بالإستناد إلى موضوع شكوى قضائية مقدّمة من رئيس مجلس الإدارة السابق في MIC2 وسيم منصور بصفته مالكاً لسهم في الشركة. إذ تشير الوقائع الواردة في الشكوى التي طلب الديوان إبلاغها للدولة ممثلة بهيئة القضايا، إلى أنه قبيل إبرام صفقة الإيجار التي تمّت بتاريخ 13 تموز 2018 تم تأسيس شركتين. الأولى بتاريخ 26 نيسان 2018 هي Ac Reality التي يملك فيها حسين عياش 998 سهماً، بمقابل سهم واحد لكل من سيرج عيروط المحامي الذي أودع لديه العقد بنسخته الوحيدة، ومحام آخر يعمل في مكتب عيروط. والشركة الثانية BC1526 تأسست في 2 أيار تبين أن مالكها هو نبيل كرم مالك شركة CITY DEVELOPMENT.
وفي الوقائع أنه في اليوم نفسه الذي تأسّست فيه شركة AC REALITY يجتمع مجلس إدارتها ليتّخذ قراراً بالموافقة على الحصول على قرض مالي طويل الأمد من فرنسبنك بقيمة 22 مليوناً و174 ألف دولار لتمويل عملية شراء البلوكين B و C من العقار1526، مقابل التنازل عن كامل الإيجار مع شركة MIC2. ويبين تقرير الديوان أيضاً أن مجلس إدارة CITY DEVELOPMENT وافق على إدخال الشركتين ضمن عقد التأمين الممنوح من قبلها لفرنسبنك، بحيث تضمن جميع المبالغ المتوجبة أو ستتوجب بذمتهما تجاه فرنسبنك. ويتوقف تقرير الديوان عند التنازل بتاريخ 24 أيار عن بدلات الإيجار لعقد إيجار لم ينجز إلا في 13 تموز، أي بعد شهرين من إنجاز العقد. فيما الأمر الساطع بالنسبة لديوان المحاسبة هو قيام فرنسبنك بإقراض شركة لم يمض على إنشائها قرابة الشهر ورأسمالها لا يتجاوز 30 مليون ليرة لبنانية، مبلغاً قدره 22 مليوناً و170 ألف دولار، وأن يكون البائع الأول هو من قام بضمان ديون المشترين لدى فرنسبنك.
ما يعني أن شركة AC نجحت في الحصول على قرض مصرفي بمبلغ طائل لشراء نصف المأجور من شركة CITY DEVELOPMENT بفعل التنازل عن الأجرة المعقودة لصالح الأخيرة. وهذه الواقعة تشير وفقاً للشكوى المقدّمة من منصور إلى شبهات حول كون عقد الإيجار أبرم بواسطة مالكي شركة AC الحقيقيين (وليس بالضرورة بواسطة المساهمين المذكورين كما توضح المصادر)، وأنّ إبرام العقد لصالح CITY DEVELOPMENT تم لقاء عمولة غير مشروعة لـ AC، ليتبين لاحقاً أنّ مساهمي شركة AC تفرّغوا من أسهمهم في البلوكين لمساهمين من شركة CITY DEVELOPMENT بعد فسخ الإيجار وبالتزامن مع بيع المأجور للدولة.
فيما لفت تقرير ديوان المحاسبة إلى أنّ ما يسمى بالهندسات القانونية لم تسفر عن أية نتائج أو آثار قانونية. فالعقار بيع من شركة CITY ثم رجع إليها خلال فترة وجيزة. وفي هذه الفترة «لم تنقل ملكية البلوكين في السجل العقاري، ولم يتم وضع إشارة على عقد البيع في الصحيفة العينية للعقار لحفظ الحقوق، كما أن البيع لم يتم أمام كاتب العدل» أي أنه لا يوجد أي إثبات «قانوني» على عملية البيع التي حصلت بالأساس.
وعليه طالب ديوان المحاسبة في ضوء الوقائع المثبتة بالمستندات توسّع الجهات القضائية والنيابية في التحقيق، الأمر الذي ينتظر أن يتحقّق في مجمل ما ذكر من تفاصيل في تقرير ديوان المحاسبة، والذي سنعرض الجزء المتعلّق منه بمبنى قصابيان في التقرير المقبل.