ميّاس.. ولبنان الذي كان

في الستينات أطلق العالم على لبنان لقب سويسرا الشرق. والسبب هو النظام المصرفي الذي لم يضاهيه حينها أي نظام مصرفي في دول المنطقة، خاصة ما تعلق بسرية التعاملات.

في مطلع القرن الماضي لم يكن من منافس للبنان، البلد الصغير جغرافيا والمتواضع بعدد السكان، بين الدول العربية سوى مصر التي تفوقه مساحة وتعدادا.

هل نحتاج إلى التذكير بقائمة طويلة جدا من فنانين، وشعراء، وأدباء، ومسرحيين، وسينمائيين، وإعلاميين وملوك أزياء لبنانيين استطاعوا أن يتسيدوا المشهد الفني والثقافي في العالم العربي، وامتدت تأثيراتهم لتشمل العالم.

بصمات لبنان، التي تركها مبدعون كبار، لم تقتصر على المنطقة بل امتدت لتشمل العالم أجمع. ويكاد المرء يقتنع بأن التفوق اللبناني هو جزء من الجينات الوراثية. يقال على سبيل المزاح، أو الجد، إن اللبناني متفوق حتى في فنون الاحتيال.

رغم أن لبنان لم يسلم من الاضطرابات ولم يشهد عبر تاريخه الحديث سوى فترات قصيرة من الهدوء، إلا أن اللبنانيين تمكنوا من تحقيق النجاح أينما حلوا. قصص نجاحهم أكثر من أن تحصى.

قصة اللبناني كارلوس غصن الذي أنقذ شركتي رينو ونيسان لصناعة السيارات من الإفلاس ثم اعتقل في اليابان وتمكن من الهرب مازالت طرية. الرجل الذي لقب بـ”السيد حلّال المشاكل” عام 1999، متهم بالاحتيال وهارب من القضاء الياباني.

اسم سويسرا الذي ارتبط باسم لبنان بسبب النظام المصرفي ليس الرابط الوحيد بين البلدين؛ عند ذكر الساعات السويسرية لا بد من ذكر اسم نيكولا حايك، ملك صـناعة الـسـاعات في سـويسرا ومنقذها والرائد الذي فعل ما عجز عنه السويسريون عندما أخرجها من “نخبويتها” وأتاحها للعموم، وأنقذ عالم السـاعات السـويسـرية العـريقة من الإفلاس، بإطلاقه عام 1983 ساعة سواتش الناجحة والرخيصة الثمن التي واجه بها الغزو الياباني للسوق. كما دمج شركتي “أسواغ” و”إس.إس.إي.إتش” بشركة واحدة تحت سيطرته، وبحلول عام 1998 تحولت الشركة السويسرية للميكروإلكترونيات والساعات “إم.إس.إتش” إلى مجموعة سواتش التي تمتلك عددا من أشهر الماركات العالمية. ونال حايك على إنجازاته شهادتي دكتوراه فخريتين من جامعة نيوشاتل (سويسرا) وجامعة بولونيا (إيطاليا).

فترة الهدوء التي نعم بها لبنان في الستينات، والتي بدأت بنهاية أزمة عام 1958 وامتدت إلى عام 1975 مع اندلاع الحرب الأهلية، كانت كافية ليملأ اللبنانيون الأرض فنا وثقافة وإبداعا شمل الإعلام والموضة والتجميل وأطباق الطعام.

خلال تلك السنوات، التي يُنظر إليها اليوم كفترة خلّاقة كان لبنان “حاضِرة الشرق الأوسط”، وشهد خلالها ذروة إنتاجه الإبداعي.

الحرب الأهلية التي تلت تلك الفترة وامتدت على مدى 15 عاما، على شراستها، أسفرت عن مقتل أكثر من 120 ألف شخص، وفي عام 2012 كان ما يقرب من 76000 شخص لا يزالون مشردين داخل لبنان، وشهدت أيضا نزوح ما يقرب من مليون شخص، لم تنل من عزيمة اللبنانيين، ولم تنقص من قدراتهم الإبداعية، ولم تكن كافية ليصبح لبنان دولة فاشلة.

ما عجزت عنه الحرب قام به حزب الله، الذي تأسس عام 1982 بدعم مباشر من إيران، وكان قادته يدينون بالولاء لآية الله الخميني، وقد تم تدريب قواته من قبل وحدة من 1500 من الحرس الثوري الإيراني.

نجحت جهود حزب الله في إنجاز ما عجزت الحروب عنه؛ لبنان أصبح اليوم دولة فاشلة.

الانهيار الاقتصادي، والفقر، والتضخم، والبطالة، والديون، وتعثّر الإنتاج، وفقدان السلطة للشرعية، وانعدام الخدمات العامة، والعجز عن تلبية الحاجات اليومية للمواطن بما فيها الخدمات الصحية وتوفير الدواء والطعام، وغياب حقوق الإنسان والتدخلات الخارجية.. معايير تعتمد لتحديد فشل أي دولة. ينطبق جميعها على لبنان اليوم.

إن كانت الدولة بمؤسساتها تموت، ليحكم عليها بالفشل، إلا أن جينات الإنسان اللبناني أثبت أنها محصنة ضد الفشل.

البلد الذي أنجب مصطفى فروخ، وجبران خليل جبران، وإيليا أبوماضي، وسعيد عقل، وأنسي الحاج، وطلال حيدر، وفيروز، ووديع الصافي، والرحابنة، وصباح، وماجدة الرومي، ونانسي عجرم، وإيلي صعب، وأنجب كارلوس غصن ونيكولا حايك.. وقافلة طويلة من المبدعين المغامرين الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، لن يصاب بالعقم.

في الوقت الذي تناقل فيه الناس في ما بينهم أحاديث تقول إن لبنان انتهى، وتهيأ الجميع لفتح مجالس العزاء، تبرز فجأة بقعة ضوء تذكر العالم بأن التفوق اللبناني ليس خرافة أو مجرد أسطورة.

نتحدث بالطبع عن فرقة رقص لبنانية، أدهشت العالم وأسالت دموع الفرح في عيون اللبنانيين والعرب. هذه المرة من لوس أنجلس، حيث أثبتت فرقة “ميّاس” بأدائها الرائع أن “لبنان لديه مواهب”.

وعبّر سايمون كاول عضو لجنة التحكيم في برنامج “أميركا غات تالنت” المعروف عادة بإثارته الجدل في انتقاداته القاسية وتعليقاته على أداء المشتركين، عن احترامه للعرض الّذي قدمته الفرقة قائلا “لا أعرف السبب، ولكن كل فرد منا في هذه القاعة سيتذكر هذه اللحظة، لأن هذا العرض لن يغير حياتكم فقط (الفرقة)، بل سيغير العالم أيضا”.

وتابع بدهشة لم يستطع إخفاءها “هذا برنامج أميركا لديها الموهبة، وهذه (مشيرا إلى الفرقة) هي موهبة العالم. احترام”.

تفاعل نجوم لبنان والعالم العربي بحماسة وفخر مع فوز الفرقة والنجاح الذي حققته بعيدا عن الوطن. واختصر مواطن لبناني مشاعر اللبنانيين، إن لم تكن مشاعر العرب، بقوله إن الراقصات “أتين من بلد مزقته الأزمات، ورغم الصعوبات، استطعن أن يكنَّ الأفضل. اللبنانيون في كل أنحاء العالم فخورون بكنّ..”.

الجميع في لبنان عبر عن فخره بمياس؛ الجيش اللبناني كان من بين المبتهجين بالفوز. ومنح رئيس الجمهورية ميشال عون الفرقة وسام الاستحقاق اللبناني الذهبي، قائلا إن فوز الفرقة “مدعاة فخر للبنانيين واعتزازهم”، شاكرا جهودهم وإبداعهم لأنهم زرعوا، كما قال، الأمل والضوء في قلوب اللبنانيين جميعا.

كما هنأ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الفرقة، بفوزها بهذا اللقب، قائلا “مجددا يتجلّى الإبداع اللبناني بعرض رائع لفرقة ميّاس في الولايات المتحدة”.

اللبنانيون لم ينخدعوا للسياسيين الذين حاولوا استثمار لحظة الفرح، وندّد نديم شرفان مؤسس فرقة ميّاس بالطبقة السياسيّة داعيا منذ لحظة وصوله إلى بيروت إلى قيام “ثورة” في لبنان.

وقال شرفان في المطار “نحن لسنا في حاجة إليكم (السياسيين). نحن فرقة ميّاس استطعنا رفع اسم لبنان من دونكم”، معبّرا عن استياء اللبنانيّين جرّاء الوضع السياسي في بلادهم.

لبنان الذي جعل من طبق الحمص والتبولة ومناقيش الزعتر أطباقا عالمية لن يندثر، لبنان موجود حيثما وجد لبناني واحد. هذا ما قاله فوز ميّاس.

بعد أربعة عقود من التصحر الفني جثم خلالها حزب الله على صدر اللبنانيين، استطاعت فرقة رقص لبنانية أن تبهر العالم وتذكر بلبنان الذي كان.

بالطبع لم يكن اسم حزب الله على قائمة المهنئين. “البوم والغربان” لا تعجب بمظاهر الفرح.