ميزان المدفوعات في 2022: أكبر عجز منذ بدء الانهيار!

تمثّل تدفّقات العملة الصعبة الواردة إلى لبنان والصادرة منه، والتي يلخّص وضعيّتها ميزان المدفوعات، المؤشّر الأكثر دلالة على تطوّرات الأزمة الاقتصاديّة اللبنانيّة. عجز هذا الميزان، الذي توالى على مدى سنوات عدّة بعد العام 2011، مثّل أولى إشارات تأزّم النموذج الاقتصادي اللبناني. ومنذ ذلك الوقت، أخذت فجوة الخسائر تتراكم في ميزانيّة المصرف المركزي، نتيجة إصرار مصرف لبنان على سياسة تثبيت سعر الصرف، وصولًا إلى تبديد دولارات المودعين للدفاع عن هذه السياسة، في ظل عجز ميزان المدفوعات وتسارع التحويلات إلى الخارج. ومع اللجوء إلى الهندسات الماليّة منذ العام 2016، كانت كتلة الخسائر تتعاظم بالتوازي مع تعاظم عجوزات ميزان المدفوعات بعد هذه السنة، فيما رتّبت الهندسات أكلافاً إضافيّة على ميزانيّة المصرف المركزي، تم دفعها كأرباح للمصارف مقابل إيداع دولارات المودعين المتبقية في مصرف لبنان.

ميزان المدفوعات ونموذج البونزي
ميزان المدفوعات إذًا، مثّل قبل العام 2019 الوجه المؤلم من "نموذج البونزي" كما وصفه تقرير البنك الدولي مؤخرًا، والرئيس الفرنسي والأمين العام للأمم المتحدة من قبل. وحين نتحدّث عن "نموذج بونزي"، فالمقصود لعبة الاستيلاء المتعمّد على دولارات المودعين، مقابل الأرباح التي مُنحت للمصارف، ومن ثم استعمال دولارات المودعين لتمويل التحويلات إلى الخارج تحت ستار لعبة "تثبيت سعر الصرف". وخلف كل هذا النموذج الاحتيالي، تراكم تدريجيًّا جزء كبير من جبل خسائر النظام المصرفي، التي نحار اليوم في كيفيّة توزيعها والتعامل معها في خطة التعافي المالي.

اليوم، لم يعد لميزان المدفوعات دلالة من ناحية تسارع وتيرة تراكم الخسائر، باستثناء ما تبقى من دولارات يقوم مصرف لبنان باستنزافها لتمويل استيراد بعض السلع، من خلال المنصّة. لكن ميزان المدفوعات ما زال يمثّل مؤشّراً بالغ الحساسيّة، لناحية حجم الفجوة الدولاريّة بين الدولارات الواردة والخارجة من النظام المالي اللبناني. وهذا المؤشّر، يملك أثره على سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وإمكانات تعويمها وتوحيد أسعار صرفها في المستقبل، وعلى استنزاف الأزمة لما تبقى من دولارات في النظام المالي. وكلما تضخّمت هذه الفجوة، المتمثّلة في عجز هذا المؤشّر، تفاقمت صعوبة الخروج من نفق الأزمة النقديّة وأزمة النظام المالي، وتزايدت حاجات البلاد التمويليّة خلال مسار التعافي المالي.

أرقام 2022: أكبر عجز منذ حصول الانهيار
أرقام مصرف لبنان تشير اليوم إلى أنّ عجز ميزان المدفوعات ارتفع ليلامس حدود 2.58 مليار دولار خلال النصف الأوّل من هذا العام، وهو ما يوازي نحو 5.16 مليار دولار إذ تم تقدير هذا العجز كمعدّل سنوي (أكثر من ربع الناتج المحلّي الإجمالي للبنان). وبالمقارنة مع السنوات السابقة، لم يتجاوز عجز ميزان المدفوعات حدود 1.81 مليار دولار في الفترة المماثلة من العام الماضي، ونحو 2.49 مليار دولار خلال النصف الأوّل من العام 2020. بمعنى آخر، يمثّل عجز ميزان المدفوعات المسجّل لغاية شهر حزيران الماضي أكبر عجز يشهده لبنان في هذا المؤشّر منذ حصول الانهيار المالي. مع الإشارة إلى أن عجوزات هذا المؤشّر كانت تسجّل أرقاماً أعلى قبل حصول الانهيار، قبل أن تقوم المصارف بفرض قيود على تحويلات المودعين إلى الخارج.

السبب الأساسي لارتفاع عجز هذا المؤشّر بهذا الشكل في النصف الأوّل من العام، يتمثّل بارتفاع كلفة استيراد المحروقات، مع ارتفاع أسعار النفط العالميّة. فمقارنة أسعار النفط العالميّة تُظهر أن البنك المركزي البريطاني يتوقّع أن يبلغ متوسّط سعر برميل خام برنت هذه السنة نحو 103 دولارات، مقارنة بمتوسّط لم يتجاوز 70.68 دولاراً خلال العام الماضي، و41.96 دولاراً خلال العام 2020. وكما هو معلوم، حين ترتفع أسعار النفط، لا ترتفع فقط فاتورة استيرادها بالنسبة لدولة كلبنان، بل ترتفع أيضًا فاتورة استيراد سائر المواد التي تدخل كلفة المحروقات في تسعيرتها. مع الإشارة إلى أن الأسواق العالميّة تسجّل اليوم معدلات تضخّم مرتفعة، أثّرت على كلفة الغالبية الساحقة من السلع الأساسيّة المستوردة، ومنها المواد الغذائيّة.

في خلاصة الأمر، تتزايد الضغوط النقديّة والماليّة نتيجة تحوّلات خارجيّة من جهة، ونتيجة فراغ الساحة الداخليّة من أي خطة معالجة فعليّة للأزمة القائمة، أو أي معالجات يمكن أن تحد من الضغوط الخارجيّة. وفي بيئة ماليّة من هذا النوع، يصبح لبنان في موقع المتلقي والمتأثّر سلبًا بهذه التحوّلات، من دون أن يملك ما يمكن الرهان عليه بالنسبة للمستقبل.