كتب أسعد قطان في المدن:
لا شكّ في أنّ القصّة محيّرة.. ومحيّرة جدّاً. حتّى موت ميشيل الحجل بالسرطان إبّان العام 2019، بدا المشهد «عاديّاً»: وصيفة ملكة جمال لبنان، عارضة أزياء، اختصاصيّة في التغذية، تموت بالخبيث في مقتبل العمر. مشهد يكسر الظهر بالنسبة إلى عائلتها. هل من ينكر ذلك؟ بالطبع لا. من الواضح أنّ فترة مرضها القاسي شهدت كثيراً من التعاطف. والتعاطف الإنسانيّ أمر مذهل دينيّاً وأخلاقيّاً. لكنّ هذا كلّه يبقى عاديّاً من منظور الذين يبحثون عن الخوارق ويؤمنون بحصولها. تغيّر المشهد حين بدأت الظهورات. امرأة من فلسطين (ربّما أخرى من سوريّا؟) أكّدت أنّ الفتاة التي أحبّها كثر ظهرت لها في الحلم وحرّضت على فتح قبرها. الكلام القليل الذي رشح عن العائلة قوامه أنّ ثمّة «علامات» أخرى دعت إلى فتح القبر، إذ ليس من عادة الناس أن يزعجوا موتاهم في مثواهم الأخير، وأن يفتحوا قبورهم. وهنا كانت المفاجأة: جسد ميشيل الحجل غير متحلّل، ووجهها محفوظ يغطّيه الشعر مع أنّ العلاج الكيميائيّ كان قد أسقط شعرها. ليس من صور متداولة. وثمّة تكتّم وقور في أوساط العائلة في انتظار رأي الكنيسة.
في الكنيسة الأرثوذكسيّة، أجساد الموتى، إذا حُفظت، لا تشكّل بالضرورة علامةً على قداستهم. طبعاً، ثمّة قدّيسون وقدّيسات لم تتحلّل أجسادهم. لكن ليس كلّ جسد لم يتحلّل يشير إلى قداسة صاحبه. هناك بالتأكيد عوامل طبيعيّة وبيولوجيّة نلمّ ببعضها ونجهل معظمها. على المستوى الحاليّ لمعرفتنا العلميّة، يستطيع المتخصّصون أحياناً أن يقدّموا تفسيراً، أو أن يغامروا بإعطاء فرضيّة. بيد أنّ الوصول إلى اليقين العلميّ عمليّة شاقّة، وربّما تكون متعذّرة. الأمر ذاته ينسحب على اليقين الكنسيّ. بخلاف الكنيسة الكاثوليكيّة، لا تعرف الكنيسة الأرثوذكسيّة مسارات محدّدة المحطّات لتلمّس القداسة. هذا التلمّس يقوده بالدرجة الأولى إجماع الناس، أو عدد كبير منهم. هم يستشعرون القداسة في إنسان ما، يلتقطون بحسّهم الرهيف أنّه يحبّ يسوع حبّاً جمّاً وأنّ سيرته مضيئة. أمّا الذين يُقتلون (بضمّ الياء) من أجل الشهادة للمسيح، فهؤلاء أمر آخر. هم قدّيسون بلا أخذ وردّ. يقبل الله شهادة الدم التي كتبوها بدمهم ويمسح من عيونهم كلّ دمعة. خلاصة القول أنّ الكنيسة مطالبة بأن تقول شيئاً، وأن تتّخذ موقفاً، وأن تعترف في آخر المطاف بقداسة الشخص إذا هي «تيقّنت» من ذلك. هذا بالذات هو صليبها. فالمسألة غاية في الصعوبة، ولا سيّما إذا لم يمضِ بعد وقت كثير. لا بأس من أن تستعين بالعلماء. لكنّ العلم قد لا يكون قادراً على الإتيان بجوابٍ شافٍ. واللاهوتيّ أحياناً ليس بأقلّ حيرةً من العالِم.
لكن ماذا لو كانت القصّة «صحيحةً» بالفعل؟ وماذا لو كان ما روته عائلة ميشيل الحجل، وأكّدته رسالة صادرة عن مطرانيّة جبيل والبترون للروم الأرثوذكس، يحيل فعلاً على قداسة هذه الصبيّة؟ نحن، في هذه الحال، أمام نموذج للقداسة لا يندرج ضمن ما هو مألوف. لقد اعتدنا أن نطلب القداسة في الأديرة، في المناسك، في البراري والأمكنة الخالية التي يلجأ إليها المتوحّدون كي يبتعدوا عن ضوضاء العالم فيسمعوا صوت الله بوضوح أكبر. كذلك اعتدنا أن نبحث عن القداسة لدى الذين انتسبوا إلى الطغمة الكهنوتيّة. وحتّى عندما نتلمّسها لدى المسيحيّين «العاديّين»، فإنّنا نتوقّع أن يكون هؤلاء ذوي بروفايل تغلب عليه التقوى التقليديّة مع ما نفترض أنّه يجب أن يصاحبها من صلاة وصوم وتعبّد وحشمة ورفض لمظاهر الحياة العالميّة ربّما إلى درجة التزمّت أحياناً. في أثناء مرضها بالسرطان قالت ميشيل الحجل كلاماً على الصلاة، وعلى طلبها من الله أن يقصّر ساعات الألم. ثمّنت أيضاً الدعم الذي مدّها به الناس. وتحدّثت عن تعبّدها للراهب القدّيس شربل مخلوف الذي لا ينتمي إلى «النسيج» الأرثوذكسيّ. هذا كلّه يحيلنا، بلا أدنى شكّ، على كمّ من التقوى لا يستهان به. بيد أنّنا لسنا مع ميشيل الحجل، الوصيفة وعارضة الأزياء، أمام النموذج التقليديّ الذي يركن إليه معظمنا حين نتخيّل القداسة أو نحاول رسم معالمها الأساسيّة. ولعلّ التحدّي الأكبر يكمن هنا. مَن يصدّق قداسة هذه الصبيّة، عليه أن يقرّ بأنّ القداسة هنا تتحدّانا عبر تكسير تصوّراتنا وتفكيك مفاهيمنا عنها. قداسة من خارج الصندوق على غرار بعض شخصيّات دوستويفسكي؟ ربّما. لكنّ الأكيد أيضاً أنّها قداسة تنبثق من إله يفاجئنا ويتمرّد على الصورة النمطيّة التي نسجناها عنه في عقولنا. ألم يكتب النبيّ العظيم أشعياء ذات يوم: «طرقي ليست طرقكم، وأفكاري ليست أفكاركم يقول الربّ»؟