نتنياهو يطيح نداء الهدنة

بات خيط الحرير هشّا، ذلك الذي يربط بين تسوية تعمل واشنطن على تحقيقها وبين الحرب الكبرى. زادت التصدّعَ العمليةُ التي استهدفت عصر أمس المقر المركزي لحزب لله في الضاحية الحنوبية، وهي لا شكّ استثنائية بالحجم والمضمون. وستكون الأيام القليلة المقبلة حاسمة لتبيان حقيقة ما ستكون عليه المنطقة (وليس لبنان وإسرائيل فحسب) من تطورات قد تتحوّل دراماتيكية ومؤسِّسة لعصر إقليمي جديد تطغى عليه القلاقل والتوترات، وتقوده قوى تتصارع على الجغرافيا والنفط والغاز.

استبقت واشنطن انقطاع خيط الحرير، بمسارعتها إلى العمل على رسم بدايات حلّ بين حزب لله وتل أبيب، مستغلّة وجود الدول المعنية بالأزمة في نيويورك للمشاركة في أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، وموظّفة في مصلحة هذا الحل ما تملك من نفوذ ودالة وعناصر تأثير ديبلوماسي وسياسي.

أدى المستشار الرئاسي الأميركي آموس هوكستين دورا متقدّما في سبيل ترسية هدنة مرحلية تعلّق الحرب بين تل أبيب والحزب، وتنطوي على وقف لتبادل النار، بالتزامن مع بدء مفاوضات نواتها تنفيذ القرار ١٧٠١ على الجانبين اللبناني والإسرائيلي تقود إلى انتشار الجيش اللبناني عند الحدود بقوة مؤثرة تستلم الأمن في منطقة انتشارها. كما تتضمّن أسابيع الهدنة بدء مفاوضات لبنانية- إسرائيلية غير مباشرة بقيادة أميركية ترمي إلى رسم صورة الحل المستدام للحدود البرية، على أن يكون الهدف النهائي التوصل إلى اتفاق لوقف النار على غرار تجارب سابقة (١٩٩٦ و٢٠٠٦). ولا مانع عندها من تمديد الهدنة ما لزم من وقت للتوصل إلى هذا الاتفاق.

أُريدَ لمشروع اتفاق الهدنة أن يكون على شاكلة سلة متكاملة تسقط عناصرها بمجرّد سقوط واحد منها، مع إدراك راسمي الاتفاق أن إسرائيل تعتبر نفسها متفوقة في الصراع القائم، وتاليا ستصعّب شروط قبولها بالمبادرة قدر الإمكان تحت طائلة موافقة الحزب على شروطها (منها، انسحابه إلى ما بعد الليطاني، وإخلاء المنطقة من الصواريخ الباليستية والدقيقة)، أو المضي في الحرب عليه.

ارتكازا على هذا الواقع، صدر فجر الخميس 26 أيلول النداء – الأميركي – الأوروبي – العربي الداعي إلى هدنة الـ21 يوما. لكنه ما لبث أن تعثّر في بداياته بفعل تنصّل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو منه تحت وطأة معارضة اليمين المتطرّف والمعارضة اليسارية على حدّ سواء، علما أن نصّ اتفاق الهدنة وُضع بالكامل بالتنسيق مع نتنياهو وبالتوافق معه، وكان من المقرر أن يرحّب بالاتفاق فور الإعلان عنه، لكنه بدلا من ذلك وجّه فور وصوله إلى نيويورك الجيش الإسرائيلي بمواصلة القتال عند الجبهة الشمالية.

وسبق للإدارة الأميركية أن خبرت سلوك نتنياهو هذا مرات عدة في حرب غزّة، لكنها هذه المرة كانت تعوّل على الإجماع العربي والأوروبي والدولي الذي وُلد في كنفه اتفاق الهدنة، باعتباره عاملا ضاغطا من الصعب عليه التملّص منه.

وكان من المأمول أن تمهّد الهدنة لتهدئة عسكرية لثلاثة أسابيع عند الخط الأزرق، تتخللها مفاوضات تقود بدورها إلى وقف إطلاق النار في غزة، قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية المقررة بعد نحو ٤٠ يوما. لكن نتنياهو فضّل أن ينصرف إلى التلاعب بالإدارة الرئاسية الأميركية، وهو بالتأكيد لن يقدّم لها أي نصر كبير تستثمره الحملة الرئاسية لنائبة الرئيس كامالا هاريس لترجيح حظوظها. فهو يراهن على فوز الرئيس السابق دونالد ترامب باعتباره حليفا أوّل له، لكي يمدّد إقامته على رأس السلطة في إسرائيل ويتفادى المصير السياسي والشخصي – القضائي القاتم.

على الرغم من هذه المشهدية الحالكة وضيق واقع الحال، لم تُقفل النوافذ بشكل كامل. إذ تستمر واشنطن في محاولاتها التسووية مع علمها المسبق بطبيعة نتنياهو وسلوكه النزق وتعمّده المناورة والتملّص، ومدى ارتباط هذا السلوك بمسار الانتخابات الرئاسية الأميركية. وهي لا شك ستستغل مشاركة نتنياهو في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة من أجل بذل مزيد من الضغط، برفقة باريس التي تسعى كذلك إلى دور ما لبنانيّ يعوّض ما خسرته سابقا.

هذا الواقع لا ينفي الخشية الاميركية من أن يوظّف نتنياهو الفراغ الأميركي كي يمضي قدما في حربه على لبنان، وصولا إلى تنفيذه الاجتياح البري الذي قد يكون شرارة حرب إقليمية اذا قررت طهران الانخراط في ما يحصل لبنانيا.

يبقى أن حزب لله نأى بنفسه عن أي موقف يتعلق بالهدنة، في انتظار الموقف الإسرائيلي الرسمي والنهائي، علما أن إصراره على عدم فك الرباط بين لبنان وغزة يُعدّ تحديا كبيرا يواجه الاتفاق. وهو بالتأكيد على تنسيق كامل مع الجهات الرسمية، عبر رئيس مجلس النواب نبيه بري المكلّف بالدور التفاوضي نفسه الذي أداه في حرب 2006. وهو ما قام به على امتداد الأسبوع الأخير، وما حداه إلى الطلب من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي التوجّه إلى نيويورك بعدما كان قرر الأخير البقاء في بيروت.