في غرفة تحمل الرقم 1325 في مستشفى بحنس يُقاوم جسد لارا الحايك (47 عاماً) الحياة بكل ما تبقى له من قوة بعد 4 سنوات على انفجار المرفأ ، غارقةٌ في سباتها العميق، لا شيء يخرق هذا الصمت المريب سوى بعض التنهدات اللاإرادية. هزيلةٌ، وبعيدةٌ، عيناها في عالمها الخاص...كلها في عالم بعيد جداً وصوت واحد يحوم حولها، صوت والدتها المثقلة بالهموم والدموع الذي يناديها "لارا لارا".
لم تيأس نجوى الحايك، والدة لارا، من حمل حقيبتها وخيبتها وأحزانها وتمضي في طريقها الذي فُرض عليها من الأشرفية إلى بحنس. 4 سنوات تقرع باب غرفة لارا وتجلس لساعات تتحدث إليها. تبكي، تضحك، تستذكر لحظاتهما سوياً في انتظار إشارة، ضحكة، كلمة... إلا الصمت الذي أصبح عدواً بغيضاً في حياة عائلتها بعد 4 آب.
قرب سريرها، تُحيط يدا نجوى إبنتها لارا وتقول لها "اشتقتلك يا أمي، والله اشتقتلك، البيت فاضي"، تُناجيها أن تعود إلى المنزل "رجعي ساعديني، رجعي عملي مشاكل، رجعي عملي يلي بدك إياه بس رجعي".
تستنجدها يائسة بأن تقوم من جديد، أن تنفُض عنها غبار الدم والموت وتستيقظ كما كانت قبل 4 آب، أسئلة كثيرة تبقى مُعلّقة من دون جواب كما هي حالة لارا المعلقة بين الحياة والموت. هذه الحقيقة تُعبّر عنها اختصاصية في طب العائلة وإعادة التأهيل الدكتورة باتريسيا فاضل التي تتابع حالة لارا منذ 4 سنوات، بالقول "أصبحت لارا أكثر ضعفاً طبياً وجسدياً، هي اليوم تخوض معركتها مع الحياة".
داخل غرفة لارا، تقف نجوى أمام سرير لارا مكسورةً وصامدة، لوحة متناقضة تُحاكي الجمود الذي طغى على حياة لارا والحياة التي استمرت في الخارج بسرعة وحيوية. توقفت حياة لارا هناك. تنظر إليها والدتها نجوى، تستغيث كل تفصيل في جسدها النحيل جداً، لقد خسرت الكثير من الوزن، أصبحت هشة جداً وكأنها تغادرنا "على البطيء".
تنحني نجوى على أذن لارا، وتبدأ بتعداد أسماء الأشخاص الذين أرسلوا سلامات لابنتها لارا، تتحدث معها كأنها تسمعها، لم تفقد الأمل يوماً في التزام الصمت معها. برغم من أن الأطباء يعرفون أن لارا في حالة غيبوبة عميقة، وتؤكد الدكتورة باتريسيا فاضل أن "لارا لا تملك أي وعي للتجاوب مع أي ردة فعل أو أي شيء يُطلب من المحيط. ليس لديها أي احساس بالأشخاص الموجودين حولها، وكل الحركات التي تقوم بها هي بديهية وليست ردة فعل".
تعترف نجوى بعد 4 سنوات على انفجار المرفأ أن حالة ابنتها بدأت تتراجع بشكل تدريجي وملموس، لم تعد تشعر بها، تصف ما تراه أمامها قائلةً " كان بعد فيها روح أكثر، كان بعد فيها صحة أكثر. هلق بحسها عم تنطفي".
إلى الأشرفية، تعود نجوى أدراجها، إلى المنزل والذكريات وثياب لارا وصورها وكل تفصيل صغير لها. ما زالت تحتفظ بها جمعيها. تحمل الدب المحشو الذي كانت تحبه لارا كثيراً وتستذكر ما تبقى لها من لارا. تبكي بحرقة "ليس سهلاً أن تربي ابنةً 40 عاماً وفجأة يخطفونها من بين يديك ولم يعترف أحد بمسؤوليته ولم يسأل عنا أحد".
تنظر إلى فساتينها وثيابها، تُنزلها ومن ثم تُعلقها من جديد، تنام على سريرها وتنظر إلى صورها المعلقة على خزانتها. تنظر إليها وتقول لنا "أعتذر منكِ يا لارا، لأنني لم أحصّل حقك ولم أستطع أن يشعر أحد بمسؤوليته تجاه ما اقترفوه بحقك. لقد سلمتك للرب وهو سيأخذ حقكِ".
يصعب عليها أن تتقبل كل ما حدث لإبنتها الوحيدة، وبدموعها تصارحني "وين بدي روح، كل قصصها هون، هي نايمة فوق وانا نايمة هون.كيف بدي اتركها لحالها هيك". أيام صعبة عاشتها نجوى منذ 4 آب وحتى اليوم، خيبات ودموع ووحدة قاتلة. تعيش مع ذكرياتها وتستذكر الاتصال الأخير من لارا قبل ساعة من الانفجار تقول لها "ماما أنا رح نام"، وأغمضت لارا عينيها ولم تستيقظ حتى اليوم!
تحاول نجوى أن تقاوم مشاعر الغضب والاستياء، تجرفها روح الانتقام ، هي التي وجدت نفسها "مطفية" من الداخل بعد أن سلبوها أغلى ما لديها. ما يؤلمها ويستفزها "تجاهل المسؤولين وصمتهم المريب، كأن شيئاً لم يكن. تخلوا عنا ولم يسأل عنا أحد. حتى وزارة الصحة لم تتكفل بأي شيء تحت ذريعة "ما في ميزانية". لذلك أقول لكل المسؤولين "الله ينتقم منكم ويحرقلكم قلبكم مثل ما حرقتولي قلبي".
تُسلم أمرها لله، هي على يقين أن "في لبنان لم تكشف أي جريمة ويُحاسب المسؤولين عنها. أملها في عدالة السماء وليس الأرض. ماتت قصتنا وقصة كل شخص في انفجار 4 آب ودفنوها تحت التراب".