نزوح "استباقي" من الضاحية: شهية أصحاب العقارات تلهب الإيجارات

يترقب أهالي الضاحية الجنوبيّة تطورات الحرب الإيرانية- الإسرائيليّة. هذه الحرب التي تقام خارج الحدود اللبنانيّة، لكنها قد تنعكس عليهم بشكل مباشر في أي لحظة، وتهدد حياتهم وتؤثر على أعمالهم، وتسلب منهم الأمان والطمأنينة. لذلك، تشهد هذه المنطقة تحديدًا موجة نزوح نحو مناطق أخرى أكثر أمانًا، الأمر الذي فتح شهية أصحاب الشقق السكنية لاستغلال هذا الظرف الاستثنائيّ ووضع الشروط التعجيزية أمامهم.

ارتفعت أسعار الشقق السكنية في غالبية المناطق اللبنانيّة، حتى تلك الشعبية التي لم تكن مرغوبة لدى فئة كبيرة من المواطنين. ويعود ذلك لارتفاع الطلب على الشقق السكنية في مناطق أخرى بعيدة نسبيًا عن الضاحية الجنوبيّة.

يتوجس السكان من شبح الحرب، ومن تحليق الطيران الإسرائيليّ فوق مبانيهم وقصفها من دون إنذار. المُسيرات الإسرائيلية تحلق بشكل متواصل فوق أرزاقهم ومنازلهم، وهي رسالة واضحة بأن إسرائيل لا تزال حاضرة، وجاهزة لتنفيذ أي غارة ولقصف أي مبنى، بمعزل عن انشغالها بالحرب مع إيران.

شروط تعجيزيّة
يشرح علي ضاهر، سمسار يعمل في مجال العقارات في حديثه مع "المدن" أسباب ارتفاع الشقق السكنية، موضحًا أن هناك مئات العائلات التي قررت ترك الضاحية والابتعاد عنها، والتفتيش عن أماكن أخرى خارج العاصمة بيروت، ما سبب تحليقاً للإيجارات. ويضيف: "أتلقى عشرات الاتصالات اليومية لأشخاص يطلبون منازل سكنية خارج الضاحية الجنوبيّة، وانعكس هذا الأمر على الأسعار، فالشقة السكنية الصغيرة خارج الضاحية تلامس الألف دولار أميركي، ويطلب صاحبها دفع عدة أشهر بشكل مسبق، لكن هذا الأمر يشكل صعوبة على كل من يرغب بالنزوح، فهو بحاجة حاليًا بالحد الأدنى لأكثر من 4 آلاف دولار أميركي".

عانى اللبنانييون خلال الحرب من صعوبة في إيجاد منازل بديلة وآمنة لهم. إذ فرضت عليهم الكثير من الشروط، وهذا الأمر يتكرر في الوقت الراهن، بسبب التطورات العسكرية الأخيرة في المنطقة. فالضاحية الجنوبية تلقت خلال الأسابيع الأخيرة الكثير من الضربات الإسرائيليّة، وقد تتعرض لتدمير أقسى، في حال قرر حزب الله مساندة إيران هذه المرة، خصوصًا بعد بيان الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم الأخير، الذي ذكر فيه أن حزب الله "ليس على الحياد.."، وأتى هذا البيان بالتزامن مع ارتفاع وتيرة التحذيرات الإسرائيلية للبنان، ومطالبته بعدم التدخل بهذه الحرب. لذلك، يطالب أصحاب الشقق السكنية بضرورة الدفع المسبق، وتحديدًا 6 أشهر كاملة، إضافة إلى شهر عمولة، أي للمكتب الذي ساعد في تأمين هذه الشقة، وشهر تأمين، أي في حال قرر المستأجر ترك المنزل فجأة، وشهر للوكيل القانوني للشقة (من الشروط الجديدة التي تطلب من العائلات).

انعكاس الآية
يتبين أن هذه الشروط وضعت خلال الأسابيع الأخيرة. فمنذ لحظة وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله، وعودة الأهالي إلى منازلهم في الضاحية الجنوبية وفي جنوب لبنان، انخفضت أسعار الشقق السكنية بشكل كبير في باقي المناطق، لكن ارتفع الطلب على الشقق في الضاحية الجنوبية.

ويضيف ضاهر لـ"المدن": لحظة انتهاء الحرب، ارتفع الطلب كثيرًا على شقق داخل الضاحية الجنوبية، وارتفعت أسعار الإيجارات من 450 دولار أميركي للشقة المؤلفة من 4 غرف إلى 800 دولار أميركي. أما الشقق المؤلفة من 5 غرف فلامست أسعارها الألف وطلب أصحابها دفع إيجار لعدة أشهر مسبقًا. إلا أن الأمر تبدل بعد فترة، وخصوصًا بعد أن بدأت مرحلة وضع الخرائط الإسرائيلية، وتحديد مبانٍ في الضاحية الجنوبية ومطالبة السكان بإخلائها، فتضاعفت نسبة الطلب على شقق خارج الضاحية، وارتفعت الأسعار مجدداً.

ويشير ضاهر إلى أن هناك عدداً من السكان لا يرغبون بمغادرة الضاحية بشكل كليّ. رفضوا بيع منازلهم، وفتشوا عن أماكن بديلة للسكن بشكل مؤقت. كما أن هناك عائلات ترفض المكوث في أي مناطق أخرى، كي لا تتعرض لأي مشاكل، وهم من عوائل الشهداء. من أجل ذلك يفضلون عدم مغادرة الضاحية حتى وإن كانت المنطقة تتعرض لاستهدافات إسرائيليّة. والسبب الآخر، هو أن الشروط التي تطلب من العائلات صعبة بسبب الضائقة المالية، فنلاحظ أن موجة النزوح مرتفعة، لكن يقابلها بقاء الكثير من الأهالي، لعدم قدرتهم على تأمين آلاف الدولارات للانتقال لأماكن أخرى.

أسئلة "سياسية"
عادت السيدة منى إلى منزلها في منطقة صفير بعد ترميمه، وكانت تغادر منزلها في كل مرة ينشر أفيخاي أدرعي، المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، المربعات الحمراء، لكنها تعود فجر اليوم التالي. لكن الضربات الإسرائيلية الأخيرة كانت تبعد عنها أمتارًا قليلة، وقررت خوفًا من فقدان منزلها أن تفتش عن منزل آخر للانتقال إليه.

تروي لـ"المدن" ما حصل معها خلال الأسابيع المقبلة، قائلةً: "اتصلت بالعديد من أصحاب الشقق المتوفرة، طلبوا مني آلاف الدولارات، ودفع 4 أشهر أو 6 أشهر بشكل مسبق، علمًا أن المنازل قديمة جدًا وتكاد تكون غير صالحة للسكن، وفي بعض المنازل المياه غير متوفرة بشكل دائم، وكذلك الأمر لناحية المصعد الكهربائي، أي أن مقومات الحياة الطبيعية ليست موجودة، إلا أن أسعارها مرتفعة بشكل لافت. وبعض أصحاب الشقق طلبوا مني الإجابة على عدة أسئلة للتأكد من الطائفة والديانة، ومن مكان إقامتي القديم. وهناك من اكتفى بالقول "نعتذر، لا نملك أي منازل للايجار"، وأقفل خط الاتصال". وتضيف: "هناك صعوبة في إيجاد منازل أخرى، لذلك الكثير من العائلات لم تغادر منازلها بعد. وبعد عودتنا إلى الضاحية بدأنا بترميم منازلنا رغم المخاوف من عودة الحرب مرة أخرى، وتدمير الأحياء ثانيةً".  

وعليه، تتجدّد معاناة الأهالي بصمتٍ مؤلم. هؤلاء الذين يأملون في استعادة القليل من الطمأنينة التي كانوا يتمتعون بها قبل حوالى العام، يرغبون بالوصول إلى الحلقة الأخيرة من كابوس الحرب، للعودة إلى أشغالهم والبقاء في منازلهم. فهم يهابون الحرب المدمرة، ويتمنون أن لا تنعكس هذه الحرب عليهم، وأن لا يتدخل حزب الله فيها أيضًا. فهم يدركون جيدًا أنها ستكبدهم خسائر بشرية ومادية فادحة ربما أكثر من المرة الأخيرة!