المصدر: المدن
الكاتب: علي نور الدين
الخميس 16 شباط 2023 11:29:45
أشارت آخر الأرقام التي نشرها مصرف لبنان إلى أنّ صافي عجز ميزان المدفوعات، الذي يلخّص الفارق بين السيولة الواردة والخارجة من النظام المالي اللبناني، بلغ حدود 3.2 مليار دولار في نهاية العام 2022. المفارقة الأساسيّة هنا، هي أنّ هذا العجز سجّل ارتفاعًا خلال العام الماضي بنسبة 62%، مقارنة بالعجز المسجّل في نهاية العام 2021، والذي لم يتجاوز يومها حدود 1.97 مليار دولار. بهذا المعنى، ازداد نزيف الدولارات خلال العام الماضي بمستويات حادّة، رغم كل التدهور الذي أصاب قيمة العملة المحليّة، والذي كان من المتفرض أن يلجم إنفاق الدولارات محليًّا لا العكس.
المنصّة والعجز التجاري والسوق الموازية
لفهم ما جرى خلال العام 2022، يمكن الدخول في تفاصيل أرقام ميزان المدفوعات، والتي تظهر أنّ العجز نتج عن انخفاض صافي الموجودات الخارجيّة -أي الموجودات بالعملة الصعبة- لدى مصرف لبنان بحدود 3.04 مليار دولار، فيما انخفضت قيمة هذه الموجودات لدى المصارف التجاريّة بنحو 152.9 مليون دولار.
أي بصورة أوضح، كان استنزاف احتياطات المصرف المركزي، المرتبط بشكل أساسي بعمليّات المنصّة وضخ الدولارات عبرها، هو العامل الحاسم في زيادة نزيف الدولارات من النظام المالي خلال العام الماضي. مع الإشارة إلى أنّ وقف دعم استيراد السلع الأساسيّة، الذي سبق إطلاق المنصّة، جرى بذريعة الحد من نزيف دولارات مصرف لبنان، وهو ما لم يحصل العام الماضي كما هو واضح.
على أي حال، من المعلوم أن الضغط على الدولارات المتوفّرة في السوق المحلّي يرتبط أيضًا، وبشكل كبير، بتزايد العجز التجاري خلال العام 2022. مع الإشارة إلى أنّ هذا المؤشّر يلخّص الفارق بين قيمة السلع المستوردة والمصدّرة، وهو ما يحدد حجم الدولارات المطلوبة لتمويل الاستيراد.
فهذا العجز، ارتفع من حدود 9.75 مليار دولار خلال العام 2021، إلى أكثر من 15.55 مليار دولار خلال العام 2022، أي أنّه سجّل ارتفاعًا سريعًا بنسبة 59% بين الفترتين. ويعود هذا الارتفاع تحديدًا إلى التضخم الذي شهدته أسعار السلع على مستوى العالم، والذي ساهم في رفع كلفة استيرادها. مع العلم أن قيمة السلع المستوردة بالتحديد ارتفعت خلال العام الماضي إلى مستويات تجاوزت 19 مليار دولار، ما أعادها إلى مستويات ما قبل الانهيار المالي عام 2019.
في كل الحالات، من الضروري لفت النظر هنا إلى أنّ الفارق بين عجز ميزان المدفوعات البالغ 3.2 مليار دولار في 2022، وعجز الميزان التجاري البالغ 15.55 مليار دولار، يمثّل تحديدًا قيمة الواردات التي تم تمويلها من دولارات السوق الموازية. فعجز ميزان المدفوعات يعبّر عمليًّا على صافي الأموال التي خرجت من النظام المالي حصرًا، وهو ما يستثني حركة الأموال التي تجري في السوق من خارج ميزانيّات المصارف التجاريّة ومصرف لبنان.
الكابيتال كونترول وتوحيد أسعار الصرف: الغائبان الحاضران
كل ما يجري على مستوى عجز ميزان المدفوعات وعجز الميزان التجاري، وما يتصل بهما من أزمات مرتبطة بسعر الصرف والحاجة إلى الدولار، يطرح السؤال تلقائيًا عن إجراءات موعودة باتت حاضرة في السجال الاقتصادي اليومي، من دون أن تبصر النور فعلًا، وأهمّها مسار توحيد سعر الصرف وقانون الكابيتال كونترول.
فمن الناحية العمليّة، يفترض أن يمثّل الكابيتال كونترول الأداة التي يمكن أن تستخدمها الدولة والمصرف المركزي، وبشكل مؤقّت، لضبط كل حركة السيولة المتبقية في البلاد بالعملة الصعبة، وتنظيم استعمال هذه السيولة. ومن المفترض أن يتكامل استعمال هذه الأداة مع مسار توحيد أسعار الصرف وتعويمها، بما يسمح للنظام المالي باستيعاب حركة شراء وبيع الدولارات في السوق. وهذا تحديدًا ما يفترض أن يسهّل مسار إعادة هيكلة القطاع المصرفي، بالاستفادة من ما تبقى من أصول سائلة داخل القطاع.
وعندها فقط، يمكن للمصرف المركزي والدولة أن يسيطرا على العجز في ميزان المدفوعات والميزان التجاري، بالاستفادة من أدوات الكابيتال كونترول من جهة، ومن مفعول تعويم وتوحيد سعر الصرف من جهة أخرى، وبعدما يكون المصرف المركزي قد استوعب وضبط حركة القطع المتفلّتة في السوق الموازية. كما يمكن عندها العودة لاستقطاب التحويلات من الخارج، بعد معالجة فجوة الميزانيّات المصرفيّة. مع الإشارة إلى أنّ أدوات الكابيتال كونترول يمكن أن تلحظ بعض الرسوم التي تشمل التحويلات غير الملحّة، كتلك المرتبطة بتكوين ودائع أو أصول استثماريّة في الخارج مثلًا، أو استيراد السلع الفاخرة والكماليّة.
في جميع الحالات، كل هذه الملفّات باتت معلّقة اليوم. إذ يقتصر مضمون مشروع قانون الكابيتال كونترول المطروح اليوم على تشريع حبس "الودائع القديمة"، مقابل تحرير "الأموال الطازجة" بشكل تام، وهو ما يناقض فكرة الكابيتال كونترول نفسها كما أشار صندوق النقد عدّة مرّات. كما أرجأ المصرف المركزي فكرة توحيد وضبط أسعار الصرف المتعددة، مقابل تبنّي أسعار الصرف متعددة، يهدف بعضها إلى تأجيل استحقاق الكشف عن الخسائر المحققة في الميزانيّات المصرفيّة. أمّا الحديث عن إعادة هيكلة القطاع المصرفي، فبات مجرّد شعارات ووعود لا ترجمة عمليّة لها على أرض الواقع.
كلفة الوقت الضائع: 21.57 مليار دولار منذ 2019
كل ما سبق ذكره، لا يدخل في إطار البكاء على الإطلال، بل في إطار تحديد الكلفة التي تترتّب على الاستمرار بالنزيف المالي الحاصل اليوم. فمنذ حصول الأزمة عام 2019، بلغ مجموع عجوزات ميزان المدفوعات 21.57 مليار دولار، أي أنّ الكتلة النقديّة التي فقدها لبنان منذ بداية الأزمة بالعملة الصعبة، توازي تقريبًا حجم الاقتصاد اللبناني المتبقي بأسره، إذا ما أخذنا بالاعتبار حجم الناتج المحلّي اليوم. وكل هذا النزيف، الذي أصاب النظام المالي، يدخل في احتساب كتلة الخسائر المتراكمة في القطاع المصرفي، والتي بات يوازي حجمها 3.5 مرّات الناتج المحلّي. الطريف في الأمر، هو أن هناك من يصرّ اليوم على عدم معالجة خسائر بهذا الحجم المهول، مراهنًا على "إعادة تكوينها" من استثمار الأصول العامّة.
في النتيجة، وبالتوازي مع هذا النزيف، تستمر عمليّة إعادة توزيع الخسائر على المجتمع اللبناني، من خلال الضمور الذي يصيب قيمة العملة المحليّة، وما تبقى من ودائع تخص الصناديق النقابيّة وأصحاب الودائع الصغيرة والمتوسّطة. وهذه الخسائر، تُضاف حتمًا على كتلة الخسائر التي تراكمت بصمت قبل العام 2019، والتي كشف عنها الانهيار لاحقًا.